هل يمكن الحديث في اللحظة الآنية التي نحياها عن نزوع نحو الأخلاقية في الفن بتجلياته العديدة، على الرغم من أن هذا النزوع الأخلاقي في الفترة الآنية وفي فترات سابقة بعيدة، أصبح كل المبدعين يفرقون من أن ترتبط أسماؤهم بهذا المنحى، خاصة بعد شيوع نظريات تحاول أن تقضي على شرعية هذا المنحى، فأصبح وجود الرسالة بشكل عام، والمنحى الأخلاقي بشكل خاص في عمل إبداعي ما سببًا من أسباب النقد الذي يوجه إليه. إن الحديث السابق ربما يكون ضروريًّا ونحن نتوقف أمام مجموعة التحليق حول الوهج للقاص عبدالله المطمي، فقارئ هذه المجموعة القصصية سيدرك أنه أمام حالة نادرة تقدمها قصص المجموعة خاصة إذا كان على وعي بطبيعة الكاتب وسلوكه وتكوينه. فقصص المجموعة كاشفة للصفاء الإنساني النبيل، الذي يظل –في مقاربته لجزئيات الواقع وتكوينه البراجماتي– على هيئة واحدة، دون تغيير، أو دون وجود جزئيات بسيطة تهشم صفاء الأنموذج أو جمال الأيقونة، التي يرسمها المتلقي للكاتب. وليس معنى هذا أنني أنطلق في مقاربتي للمجموعة من خلال صورة خاصة رسمتها للكاتب، وإنما معناه أن قصص المجموعة تشير إلى شخص له طبيعة خاصة، لا يتبرم على نسق مسيطر يرفضه البعض، وإن أشار إلى مجموعة أنساق لها فعل السيطرة والشيوع، هو –فقط- يكتفي بعرضها تاركًا الحكم للقارئ دون أدنى محاولة لتوجيه القارئ نحو وجهة نظر معينة، وهو كذلك لا يتسلق – كما يفعل كثيرون من كتاب القصة القصيرة والرواية في المملكة العربية السعودية في اللحظة الآنية- بالإلحاح على جزئيات مسكوت عنها، ويضعها في بؤرة التركيز والتحليل، هو –فقط- يكتب وعيه دون رطانة زائفة، ودون بهارات قد تكسب هذا العمل اهتمامًا وقتيًا. والمنحى الأخلاقي لدى عبدالله المطمي ليس منحى وعظيًا، وإنما هو منحى تأملي قائم على الملاحظة الصامتة، يؤيد ذلك أن أغلب قصص المجموعة -إن لم يكن كلها- جاءت من خلال ضمير الغياب، الذي يخرج الذات من بؤرة التركيز، ويجعل الاهتمام منصبًا على نسق موضوعي عام. تتجلى ملامح ذلك النسق الأخلاقي من خلال عدة جزئيات جاءت فاعلة في تشكيل المجموعة، منها اختيار الأنموذج الكاشف، الذي ينضوي في إطاره أفراد عديدون، ففي تشكيله لهذه النماذج لا يتوجه إلى نماذج آنية معاصرة، وإنما ينتقي نماذج من لحظات سابقة، لكنها ما زالت مملوءة بالحرارة والوهج لما تشكله داخل المتلقي من نزوع لمعاينة نماذج بائدة بسحرها واختلافها عن نماذجنا الهشة الآنية. ففي قصة الرحلة الحلم يرتبط تشكيل الأنموذج بامرأة عجوز وحيدة فقيرة تقتات من بيع بيض دجاجاتها، تضع القرش على القرش انتظارا لرحلة الحج الذي حلمت بها طويلا، فقد أصبحت رحلة الحج حلما يزداد توهجا كلما دنا موعدها. إن اختيار هذه المرأة بوصفها أنموذجا لكثيرات ينتمين للحظات سابقة اختيار لحالة وجدانية قديمة، ما زال النزوع إليها مشروعا، في ظل سيطرة نماذج آنية زائفة، فهي تمثل حنينا لصفاء وإيمان تامين. ويبدو أن إلحاح الكاتب على النماذج المملوءة بالصفاء التام، المبني على المعرفة الشفهية، التي تنتقل من جيل إلى جيل دون الحاجة إلى القراءة، أو التأثر بتوجهات فلسفية خاصة كان له تأثير في تشكيل أنموذج آخر، ففي قصة (الرجل الصامت )يأتي الأنموذج مرتبطا بنوع خاص من البطولة التي توجد في كل القرى، بحيث تتكاتف سمات معينة لتشكيله، منها المعرفة القائمة على التجريب، وقدرته على أداء أعمال غيره من البشر، حضوره الذي يجمع الآخرين حوله، ردوده وتعليقاته اللاذعة، رحيله بهدوء. المتأمل للأنموذجين السابقين يدرك أنهما أنموذجان لهما يقين خاص ليس مبنيا على القراءة أو المعرفة المحددة بأطر معروفة، وإنما هي معرفة كونت تدريجيا بفعل التجربة والمعايشة والارتباط بالآخر بشكل يحدده الأنموذج، وبفعل اليقين الذي لا ينفصل على المعرفة، والذي أثر على لحظة النهاية لدي كل أنموذج، فالمرأة ماتت ساجدة في الحرم بعد تحول الحلم إلى حقيقة وأداء فريضة الحج، والرجل الذي يشبه نماذج عديدة في كل القرى رحل بهدوء ودون جلبة واضحة. إن بناء الأنموذج يشكل انتصارا للهامش القروي، بعيدا عن المتن الذي تحتل المدينة فيه الوجود الأكبر بقيمها الخاصة، والانتصار للهامش لا يعني تقديم نماذج لافتة للنظر بغرابتها، بقدر ما هو تسجيل وإعلان انتساب لتلك الكيانات المميزة بيقينها وبمعرفتها الخاصة. ومن الأشياء اللافتة في المجموعة وتأتي وثيقة الصلة بالمنحى الأخلاقي الخاص في المجموعة، تصويره لبعض الأنساق الاجتماعية، وهي أنساق لا يرضى عنها أغلب الكتاب والمبدعين، ومازالت –بالرغم من خفوت بعضها– مثار شد وجذب. فقصص المجموعة لا تقدم وجهة نظر يحاول من خلالها الكاتب أن يجعل القارئ متساوقا معها أو مرتبطا بها كما يفعل الآخرون من خلال آليات التحفيز، وإنما نجده يقدمها في إطار سياقها الخاص المرتبط بدلالتها في عرفها الاجتماعي. ففي قصة (الختان) لا يلمح القارئ أي صدى لعدم الرضا بهذا النسق، فهو يقدمها لكي يختزنها بوصفها دالة على مرحلة سابقة، وهو بذلك لا يشعر القارئ بمحاولة الانفلات من هذا النسق أو التبرم عليه، بل على العكس من ذلك نجده يشعرك بالاطمئنان والانتساب إليه. وقد كان هذا النسق الخاص له حضور لافت لدى كتاب القصة والرواية في المملكة، كما في رواية ساق الغراب، وفي مجموعة (تلك التفاصيل) لحسن الحازمي التي تنتمي مجموعته لهذا التوجه الأخلاقي، في قصة حسن حجاب الحازمي نجده يسير في الإطار ذاته لكنه في النهاية يتبرم تبرما هادئا، وذلك من خلال إشعار المتلقي بوفاة الشخص الذي أجريت له عملية الختان. إن هذه الآلية الخاصة بتغييب وجهة النظر حول الأنساق، التي ما زال الاختلاف حولها قائما، ظلت حاضرة وفاعلة في مقاربة جزئيات وأنساق أخري اجتماعية عرفية، مثل جزئية العنوسة في قصة البشارة، أو عمل المرأة في قصة انفراج، أو قيادة المرأة السيارة في قصة التحليق حول الوهج. وهذا التغييب ليس متعمدا خوفا من بطش أو زهدا في شهرة يجليها الارتباط بهذه الجزئيات من خلال رفضها والتبرم عليها، وإنما هو نزوع أسسه تكوين فردي ما زال متجذرا في ذلك الإطار، وليس لديه ترف الابتعاد عنه أو التبرم عليه. يتبقى أن نشير إلى أن هناك مجموعة كثيرة من القصص تنتمي إلى الشكل المكتنز أو المكثف، والذي يسمى القصة القصيرة جدا، وفي إطار ذلك المنحى الإبداعي يحدث تغييب للحدث وللسرد المتنامي، ويظهر نتيجة لذلك اهتمام خاص بالفكرة وهيمنة لها، بحيث تغدو بؤرة التوجه الأولى في ذلك النوع من القصص. ففي قصة رضوخ على سبيل المثال، لا يلمح المتلقي سردا تراتيبيا أو بناء سرديا، وإنما يتم التوجه مباشرة للفكرة، حيث يتجلى للقارئ طبيعة ذلك الرضوخ، فهو ليس رضوخا قائما على انكسار خاص قد يتوقعه القارئ، وإنما يرتبط ذلك الرضوخ –الذي أصبح داخليا– بمعاينة تحول من الزوجة تجاه زوجها تحولا داخليا يجعلها تقارب ما في زوجها من سمات خاصة ومشاعر دافقة، ومن ثم يحدث التغيير داخليا. فإذا كان النفور داخليا فإن متعة مقاربة معاينة الجمال أو الارتباط به تدريجيا تتم بشكل داخلي لا يشعر به إلا تلك المرأة. إن هذا النسق الإبداعي الذي يرتبط في الأساس بسيطرة للفكرة وتغييب آليات السرد المؤسسة بفعل الكتابة الإبداعية يؤثر بالضرورة على البناء السردي، الذي جاء مكثفًا ومكتنزًا إلى حد بعيد، فهذه القصص تبني حضورها وإشعاعها الدلالي على المفارقة، كما يتجلى في قصة ندم وقصة وداع، وقصة إياب. ففي قصة ندم تتشكل حدود الفكرة في إطار فاعلية الزمن، ودوره في تغيير المواقف والأدوار والتوجهات من خلال صورتين تشكلان المفارقة، الصورة الأولى ترتبط بامرأة ما، لها جمال فاتن، يجعلها تماطل في عروض الزواج، وترفض كل الأصوات الناصحة. أما الصورة الثانية والأخيرة والتي تولد المفارقة فهي صورة المرآة، التي تضع لهذه المرأة من خلال الإشارة إلى الشعرات البيضاء، في إطار خاص من الندم، وكأن المفارقة وهي وثيقة الصلة بكل أدب له قيمته تطهرنا وتطهر نظرتنا للحياة.