ربط الفيلسوف الألماني فريدريك شيلر فلسفة الجمال بالأخلاق، وكان سبّاقاً إلى هذه الإشارة المهمّة إلى العلاقة الوطيدة بين الأخلاق المنتجة للجمال، والعكس صحيح. وكان يجب أن تسلك نظريته هذه معابر علمية كثيرة على مدى قرنين من الزمن قبل أن تصبح إحدى ركائز نظرية الأدب على مستوى أهم الجامعات في العالم، وعلى رأسها الجامعة الألمانية أو ما سيسمى بمدرسة كونستانس التي أنتجت نظرية القراءة وجمالية التلقي. لا بأس من هذه المقدّمة لنفهم المبدأ الذي قامت عليه قصّة الفيلم اللبناني "مفاتيح مكسورة" والتي أزعجت البعض حد مهاجمته على أنه أسوأ ما أنتجته السينما اللبنانية بدافع سياسي مقيت كالعادة. فالفيلم الذي أشاد به نقّاد سينمائيون كثيرون من الوزن الثقيل لم يخيّب أمل من رشحّه لمهرجان "كان" ولمهرجانات أخرى. أمّا جماهيرياً فقط حقق نجاحاً كبيراً بعد عرضه في صالات السينما رغم ارتفاع أسعار التذاكر عشر مرات مقارنة عمّا كانت عليه بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان. إذن من البديهيات أنه قبل أن يميل الإنسان إلى العزف والغناء والرّسم، ملأ الخالق الكون بالموسيقى وكل أنواع الجمال صوتياً كان أو استعراضياً، أمّا الإنسان فليس أكثر من مجرّد قطرة في بحر هذا الكون الهائل الذي لا يتوقف عن إبهارنا. هدم أي قطعة جمالية من هذا البهاء الكوني فعل شنيع يناقض فطرة الحياة. وهذا ما فعله قائد المقاتلين المتطرفين حين أفرغ سلاحه في بيانو كان يمثّل الشيء الوحيد الذي تنبعث منه أصوات الأمل وسط خراب عظيم خلّفته الحرب. وبعد أن كان البيانو اكسسواراً اختلفت بشأنه الأطراف المتقاتلة سيصبح أداة خلاص مع تقدم الأحداث، فيسعى العازف لإصلاح مفاتيحه التالفة، ويسعى أحد تجار الحرب للحصول عليه ليصنع ثروته، وهنا يصبح ثمن البيانو ثمناً لشراء تذكرة الهروب من معقل الخراب ذاك، فيما في لحظة من لحظات اليأس يتحوّل البيانو إلى سلاح مقاومة من أجل البقاء. أبدع جيمي كيروز في عمله السينمائي الأول، وفي استخراج طاقات ممثلين لبنانيين، كثيراً ما فشلت الدراما التلفزيونية اللبنانية في إخراجها، وهذا في حدّ ذاته إنجاز عظيم، مبرزاً أهمية أداء كل ممثل حتى وإن كانت مشاهد ظهوره قليلة، فالفنّ في النهاية يعتمد على قوة الأداء لا على كثرة الأداء. الموسيقى التي ألفها غابريال يارد (72 سنة) والحائز على جائزتي أوسكار وغرامي عن موسيقى فيلم "المريض الإنجليزي" تعيد للأذهان مجد السينما اللبنانية بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، والذي طعنته الحرب بكل بشاعاتها، وكيف أنها بقيت تقاوم بمجهودات فردية لإبقاء دور بيروت الثقافي حتى في أحلك أيامها. "مفاتيح مكسورة" فيلم تجاوز جماليات عمل سينمائي إلى أداة مقاومة، ولعل توقيت عرضه كان ذكياً جداً للتذكير أن البطولة ليست في حمل السلاح وتدمير الحياة، بل في الحفاظ عليها.