أين صارت السينما اللبنانية؟ وأين صارت آمال شبانها الكبيرة؟ وهل استثمرت حقاً نجاحات حققتها خلال المراحل السابقة؟ أسئلة تشغل بال السينمائيين اللبنانيين مهما كانت انتماءاتهم وأجيالهم. هذا الملف يحاول ان يطرح هذه الأسئلة، من خلال حوارات مع بعض البارزين من ابناء الجيل الجديد في هذه السينما/ الشبح، ومن خلال حوار مع واحد من جيل المخضرمين، وكذلك من خلال جديد مخرجة تنتمي الى جيل الوسط. والسجال مفتوح. دخل الفن السينمائي مبكراً الى لبنان مقارنة بمعظم الدول العربية المجاورة. وحاول السينمائيون اللبنانيون خلال اكثر من نصف قرن، صناعة سينما لبنانية بالجهد الفردي والمغامرة والهجرة، وسط غياب دعم الدولة وتشجيعها. واليوم يسعى الجيل الشاب لتحقيق مشاريعه الطويلة حتى لو كلفه ذلك الهجرة بحثاً عن مصادر التمويل الخارجي للفيلم. وفي هذا الصدد يستعرض مخرجون سينمائيون شبان واقع السينما اللبنانية بأسف ويحاولون ايجاد تصور معين لحل الأزمة. بعضهم وجد الحل بالفيديو وبعضهم الآخر قرر خوض غمار الفيلم السينمائي الطويل عى رغم معرفته بالصعوبات التي ستواجهه. الفيديو خلاصاً المخرج اكرم الزعتري الذي ينتمي الى "جيل الفيديو" كما يقول يعتبر ان خلاص السينما اللبنانية سيكون من خلال الفيديو "لدينا سينما قليلة في لبنان، ولا يمكن التنكر للمحاولات الجدية، على قلتها، لكن العمل الفعلي يتم بالفيديو. ويمكن تلخيص المعوقات التي تحول دون نهوض السينما اللبنانية بالموازنات الضئيلة، او حتى غيابها. فالسينما بشكل عام تتطلب موازنات عالية جداً، الأمر الذي لا يتوافر لدينا. فنحن نعيش في بلد لا توجد فيه صناعة سينمائية. ومن الطبيعي ألا تكون البنية التحتية موجودة. ولا أعني بالبنية التحتية معامل تحميض الأفلام فحسب بل أعني أيضاً الأموال المخصصة للسينما سواء من الدولة عبر وزارة الثقافة أو من المنتجين الذين يستطيعون المغامرة بمشاريع سينمائية، وهذا امر غائب كلياً. وأتفهم عدم خوض هذا المجال خصوصاً خلال فترة الحرب، كما أنني أعتقد بأننا لا نزال في حاجة الى وقت كبير حتى يتشجع المنتج، فالسينما اللبنانية لم تثبت انها مشروع مردوده سريع ومربح". ويتابع: "لا أريد أن ألوم وزارة الثقافة وحدها لعدم دعمها السينما بشكل كاف إلا انني أعتبر ايضاً أن العمل السينمائي بحد ذاته لم يفرز بنية تحتية لدعم السينما بل أفرز نوعاً آخر: الفيديو. أنا لا أطلب من الدولة شيئاً، فأنا بالأساس لا أؤمن بأن يقوم القطاع العام بإنتاج اعمال ذات نوعية، فهو محكوم حتى يومنا هذا بالمحاصصة والرشوة. والقطاع الخاص يبغي الربح السريع ويخشى المغامرة. فما العيب في الإنتاجات المشتركة؟ معظم الأفلام في العالم تكون بإنتاج مشترك بين دول عدة وليس من الضروري ان يكون بلد المخرج مشتركاً فيها. وطبعاً لن نتنكر للنعمة لو أتتنا من بلد المنشأ. لكن هذا لم يحدث اطلاقاً". وعن إمكان انجاز فيلم سينمائي طويل يجيب: "لم يكن هاجسي يوماً انجاز فيلم سينمائي طويل، أو على الأقل، هو ليس حلم حياتي، لكنه واحد من المشاريع الكثيرة التي تدور في رأسي. فأنا ضد الفكر التي تعتبر ان الفيلم القصير او فيلم الفيديو تحضر للمرء كي يصل الى مرتبة اعلى كما يظن البعض: أي الفيلم الطويل. فالقصة ليست هنا بنظري، بالنسبة إليّ الوقت والكلفة التي تتطلبها الأفلام الطويلة تعيق عمل المخرج إذ أكون قد صوّرت عشرة افلام فيديو أو أكثر في الوقت الذي لم إنهِ فيه بعد الفيلم الطويل. وهذا يجعلني أقلب أفكاري بشكل أنشط، بدلاً من الشكل الفكري والتركيز على مشروع واحد محاولاً تجميع موازنته". تنازلات ويضيف الزعتري: "ليس هدف حياتي القيام بأعمال جماهيرية أو أعمال تجذب جماهير عريضة، وإلا لكنت عملت في التلفزيون. فأنا بطبعي لا أسعى وراء الجمهور العريض. والمشكلة تكمن في كمية التنازلات التي عليك القيام بها متى دخلت الى الجمهور العريض، اي متى قمت بفيلم سينمائي طويل، وهذا ما لم استطع القيام به حتى الآن. إلا أنني وجدت الحل الشافي وهو "الفيديو". فالفيديو يتخطى مشكلات السينما عنيت: الرقابة والتوزيع والإنتاج. وبالتالي ما يهمني هو ايصال افكاري خارج فكرة السينما التقليدية والفيلم الطويل. المهرجانات التي أعرض فيها افلامي تشكل بالنسبة إلي منبراً حراً، أعبّر من خلاله عما اريد". وحول ما إذا كان الفيديو يأخذ مكان السينما في لبنان يجيب الزعتري بالنفي: "لا، على العكس، ان الفيديو والتلفزيون لا يأخذان من مكان السينما لا بل يساهمان في اغنائها. ويحدث ذلك من خلال مساهمة التلفزيونات بإنتاج فني كبير كما يحصل في معظم دول العالم. ففي فرنسا مثلاً يسهم التلفزيون الفرنسي بإنتاج افلام سينمائية ودعمها بطريقة غير مباشرة إذ يصبح هناك شراء للقصة وللفيلم وكأنه يقوم بإنتاج الفيلم بشكل غير مباشر. وهذا ما يعزز من مكانة السينما". وعن صناعة سينمائية في لبنان يقول: "الصناعة السينمائية لا تخدم السينمائي الجدي او السينمائي المؤلف في كثير من الأحيان، لا بل تحاربه ايضاً. ولو كانت هناك صناعة سينمائية عندنا لما كنا نحن جيل الفيدير ابصرنا النور. فالصناعة تؤثر في تفكير المخرج كالمدرسة الطاغية. ففي مصر مثلاً لا تستطيع مدارس السينما أن تفرز مخرجين يقومون بعمل ما خارج إطار ما هو سائر أو متعارف عليه وأكثر من احترم عمله في مصر هو يسري نصر الله. من هنا اتساءل اين الأجيال التي تتخرج في الجامعات كل سنة؟ هم لديهم صناعة ولكن يغيب عنهم الإنتاج الذي يشدّني فكرياً وذهنياً". ويتطرق الزعتري الى الحرب اللبنانية، فيرى فيها جوانب ايجابية إذ أفرزت كمية من التلفزيونات أدت الى حرب صورة ووعي لأهميتها، الأمر الذي لم تعرفه البلاد العربية الأخرى. ويضع التجربة الإيرانية امام ناظريه فيرى ان التراكم هو سبب نجاح السينما الإيرانية "إذا جمعنا كل الأفلام اللبنانية التي انجزت، لا يتجاوز عددها العشرة، وهذه ليست سينما قادرة على ان تفرض نفسها على الساحة. فالتراكم اهم شيء والمثل ايران، فهم ينتجون عدداً كبيراً من الأفلام. وجمهورهم لا يشاهد السينما الأميركية أو الأوروبية، فالاستهلاك المحلي كبير ويكفي لدعم هذه الصناعة". ويختتم قائلاً: "الفيلم عبارة عن حوار مع المشاهد، فإذا استطعت كمخرج القيام بذلك اكون قد اديت واجبي، فأساس عملي هو اثارة اسئلة عند مشاهدي فأدخل عنصر الشك لديه عن امور يعتبرها بديهية، اما السينما فلا تبدأ من فكرة ارضاء الجمهور وإلا نكون امام معادلة الستينات ذاتها عندما انتجت افلام باسم الجمهور ولكنها في الواقع ضده. المستقبل هو للفيديو". إصرار في المقابل، لا يزال بعض المخرجين يثابر لتحقيق المشاريع السينمائية الطويلة، على رغم كل التحديات والمصاعب، من دون اهتمام بالوقت الطويل الذي يتطلبه انجاز الفيلم او الموازنات المفقدوة في لبنان والتي يسعى هذا البعض لجلبها من الخارج، فالمهم هو تحقيق ما يُطمح إليه". المخرج ايلي خليفة الذي يحضر حالياً لفيلم سينمائي طويل، بعد ان كانت له تجارب في هذا المجال، يصف المخرجين السينمائيين اللبنانيين بأنهم من كوكب آخر: "الواقع الملموس مملوء بالكذب والنفاق والخداع والوعود، ولولا اصرار بعض المخرجين المجانين على ايصال افكارهم على رغم المعوقات المتنوعة، لكنا في حال أسوأ. ان اساس المشكلة يتجسد بعقلية اللبناني، بالناس، بالحكومة وبالمسؤولين عموماً، والسبب يعود لجهلهم اهمية السينما وكونها سلاحاً قوياً جداً للذي يدرك كيفية استخدامه. في لبنان، لم يصلوا بعد الى إدراك اهمية السينما في العالم، فكيف سيساعدونها او يدعمونها ان لم يعرفوا قدراتها؟". في لبنان والبلاد العربية لم يتوصلوا بعد الى معرفة اهمية الصورة وقد خسر العرب هذه المعركة منذ زمن بعيد، فلم يقتدوا بالولايات المتحدة التي باستيعابها اهمية السينما تمكنت من ترويج افكارها ومخططاتها في العالم كله. فالنظرة السائدة عن السينما لا تزال نظرة متخلفة وقديمة جداً وهذا امر يرجعنا الى الوراء، اكثر فأكثر. ولو تخطينا موضوع السينما ونظرنا الى المسلسلات المحلية التي تقدم على شاشاتنا، لظنّنا بأننا عدنا بالزمن ثلاثين عاماً الى الوراء. إذ ان التلفزيون اللبناني في السبعينات كان يقدم مسلسلات اهم من التي نراها حالياً. فهل ذلك معقول؟ لذلك أعود وأشدد على أن معرفة اهمية السينما في العالم امر اساس للنهوض بها وإخراجه من كبوتها. فالفيلم السينمائي يسافر دوماً ويجول الكرة الأرضية كلها وهو يعطي صورة عن البلد. فإذا كان جيداً فمن الطبيعي ان تنعكس هذه الصورة بشكل ايجابي علينا كشعب فتتغير نظرة الغرب إلينا وكل ذلك قد يتحقق مع الوقت والوعي". وعن الحلول التي قد تساعد في إنهاض السينما اللبنانية يقول خليفة ان الحلول كثيرة وما يلزمنا هو نقطة انطلاق: الإرادة ويضيف: "يتم الكلام باستمرار عن السينما الإيرانية وما وصلت إليه، فهل تساءلنا يوماً عن اسباب هذه النهضة؟ في ايران وجدت الإرادة لدعم السينما، فوجدناهم لا يعرضون الأفلام الأميركية في صالاتهم ما اجبرهم على تحقيق افلام محلية ليملأو الشاشات الكبيرة. وبذلك بدأوا من كان ما، وتطور الأمر الى أن وصلوا الى ما هم عليه اليوم. عدا ذلك فالجمهور الإيراني جمهور مثقف يفهم السينما وأفلامهم منها ما يعرض في السوق المحلية ومنها ما يعرض في الخارج. ولو نظرنا الى الدول الأوروبية بشكل عام وفرنسا بشكل خاص للاحظنا اكتساح الفيلم الأميركي للسوق الأوروبية. لكن من جهة اخرى، نراهم قد أفادوا من الوضع إذ بإمكاننا القول ان السينما الأميركية تموّل السينما الفرنسية. فالفرنسي يدفع مبلغاً من المال على كل بطاقة سينما لمساعدة السينما الفرنسية. ما ينقصنا في لبنان هو الإرادة قبل اي شيء آخر، أما الحلول فليست عسيرة اطلاقاً". غياب الدعم ويضيف: "وإذا تطرقنا للدولة نجد انها من جهتها لا تقوم بأي مبادرة لتشجيع الفن والنهوض بالسينما، فلا نسمع إلا الوعود، اما الواقع فمزرٍ. كل ما نقوم به هو بجهودنا الفردية، فقط هدفنا التعبير عن ذاتنا. ونحن كمخرجين نقوم بالدعاية للبنان من خلال افلامنا بطريقة غير مباشرة، من هنا اتساءل هل انا موظف في وزارة الإعلام؟ بالطبع لا وقد آن الأوان كي تتحمل وزارة الثقافة مسؤولياتها وتقوم بواجبها على أتم وجه لا أن تكتفي بالتنظير، جالت افلامي في الكثير من المهرجانات الدولية ونلت عليها جوائز عدة وتم عرضها في صالات السينما في الكثير من الدول الأوروبية: فرنسا، سويسرا... كذلك اشتراها التلفزيون الكندي والتلفزيون الإيراني. أما في لبنان فماذا نجد؟ لا شيء اطلاقاً والأمر الذي لا يخفى على أحد هو غياب المساعدة حتى في التوزيع. في الماضي كانت السينما في لبنان صناعة اما اليوم فنسمع وزير الثقافة يتكلم عن صناعة سينمائية اما الأفعال على أرض الواقع فمغايرة، لا دعم ولا تشجيع، كلام فحسب". كفاح ومجابهة من جهته يعتبر المخرج فؤاد عليوان ان لبنان غير قادر على ان يكون لديه سينما كونه غير قادر بعد على ان يكون بلداً بكل ما للكلمة من معنى: "وضع السينما اليوم في لبنان مختصر عن وضع البلد بشكل عام، شلل كلي، عدا محاولات خجولة لأفراد يهيمون في حب السينما. فالسينما مرآة تعكس حقيقة الواقع، ووضعنا في لبنان مزرٍ، والسينما اللبنانية في وضع لا تحسد عليه. علينا ان نحب السينما ونعطيها بلا مقابل وبدورها تدفق علينا الكثير الكثير. ولو عرفنا اهمية السنيما لكنا اليوم في حال افضل. فغياب السينما في لبنان يعني غياب عصب البلد ونبضه وقلبه ولونه اذ ان السينما تجسّد البعد الثقافي والبعد التاريخي للبلد، وتنقل هذه الصورة اينما كان. ونحن كمخرجين لا نزال نكافح على رغم كل الصعوبات التي تصادفنا حتى يتغير الوضع نحو الأفضل، فأنا أقوم بإنتاج سنوي متواصل وحالياً أحضّر لمشروع فيلم طويل، كذلك سأبدأ تصوير فيلم قصير في سويسرا يروي قصة عائلة لبنانية تعيش في المهجر وعلاقات هذه العائلة في المجتمع الداخلي وصراعها مع العالم جديد. صراعات حضارية، اجتماعية بين جيلين: جيل ما قبل الحرب وجيل ما بعده. فنعايش الحرب الأولى لهذه العائلة في المهجر وهل ستذوب فيه؟". ويضيف: "وبذلك نمثل من خلال افلامنا هذه، ومشاركتنا في المهرجانات الدولية، وطننا ونغير بعض الاعتقادات الخاطئة السائدة عنه في الخارج. فنلعب دور وزارة الثقافة اللبنانية التي من جهتها لا تعترف بنا وبأبسط حقوقنا. فهل يعقل ذلك وهل يجوز ان يكون الفيلم وزارة ثقافة للخارج ولا يلقى اي دعم؟ لماذا هذا التنكر للفن؟". ويتابع عليوان: "مشكلتنا الأساسية كسينمائيين لبنانيين اننا نمثل بلدنا لبنان في الخارج من دون ان نلقى اهتماماً بنا في الوطن. لا توجد إلا جهود فردية لأشخاص عشقوا السينما. فأين وزارة الثقافة من ذلك كله؟ ومتى ستتحرك لإنهاض السينما؟". وعن غياب المنتجين اللبنانيين يقول عليوان بسخرية: "في لبنان لا وجود لمنتجين للسينما بل هناك منتجون للراقصات والراقصين. لذلك نسافر باستمرار الى اوروبا لتأمين التمويل لمشاريعنا في الخارج، فالمنتج عليه ان يكون مثقفاً قبل اي شيء آخر ونحن نطمح الى مثقفين يجسدون افكارهم على أرض الواقع فيصبحون منتجين لا أن يكتفوا بالتنظير". وعما إذا كان هناك من حل يجيب عليوان: "بداية يجب صنع انسان حر وبعدها نتمكن من الكلام. حالياً كمخرجين نعيش قصة حب من طرف واحد وكل ما نأمله هو ان يتكلل هذا الحب بالزواج فتتحد جهودنا وتبصر السينما النور بعد سنوات من الظلمة".