هذا يوم محفور في ذاكرتي، رغم مضي ما يقرب من نصف قرن عليه، لكن لوقعه على نفسي، ظل بكل تفاصيله يتحرك بين وقت وآخر في الذاكرة خصوصاً عندما يحل العاشر من رمضان؛ فقد كنت في ذلك التاريخ مقيماً في فندق من نجمتين في القاهرة وأجرته اليومية، يا سبحان الله، كانت على قدر نجومه. ومع الجنيهين التي كنت أدفعها أجرة يومية للفندق اليوناني الأصل، والذي كان اسمه "ناسيونال" وليس ناشيونال، كان لي كامل الحق في الجلوس قارئاً ومتأملاً وشارباً في مقهاه، الذي يطل على شارع سليمان باشا أو طلعت حرب كما أصبح اسمه بعد تغير الحكم في مصر، وكان لي الحق أيضاً باعتباري من سكان الفندق، في حضور السهرة الفنية اليومية فيه في ملهى "البيروكيه" بمدخل الفندق، وكان في وقت هيمنة التيارات العقدية المتشددة على جل الشوارع الإسلامية، نشطت تجارة العملة (الحلال)! التي أخرجت أناساً من القاع إلى القمة، وتقرباً إلى الله من بعض هؤلاء القوم، ولقطع أرجل الراغبين في الترفيه في هذا الفندق وغيره من الفنادق، كما قيل في ذلك الوقت، اشترى أحد هؤلاء فندق النجمتين وحوله إلى مول تجاري مازال قائماً حتى الآن. وقد سكن هذا الفندق قبلي كثر من محبي الترحال، منهم الشاعر "عبدالله اللويحان" صاحب القصيدة الشهيرة عن "شارع فؤاد" الذي يتقاطع مع شارع سليمان باشا الذي يقع عليه الفندق، يقول ابن لويحان وكله دهشة من هذه البيئة الجديدة التي تختلف جذرياً عن بيئته: "إن مت في شارع فؤاد ادفنوني / ياطن على قبري بنات مزايين معاد أكدب عقب شافت عيوني / بنات من نسل البوش والسلاطين". لكن القصة ليست هنا، ولكنها في الموقعة التي لم تهز الشارعين العربي والمصري فقط، ولكنها هزت العالم كله، ربما دون توقع من الجميع، فقد صحوت وأنا في فندق على أصداء حرب العاشر من رمضان والذي كان يوافق السادس من أكتوبر عام 1973م، وكنت في ذلك الوقت أقيم وحيداً في هذا الفندق، كما هي عادتي التي درجت عليها في الأسفار قبل زواجي. صحوت من النوم لأجد عمال الفندق منهمكين في طلاء النوافذ بلون يمنع الرؤية الخارجية، توقعاً منهم لهجمات إسرائيلية قد تطال المساكن والشوارع وعامة الناس، لكن الحرب، وهذا ما أراحني، كانت برداً وسلاماً على نفوس الناس، فقد أشعرتهم بأنهم ردوا ديناً طال أمد تسديده، خصوصاً من رأيتهم من الكتاب والمثقفين، في جولتي الليلية التي تعمدت أن تكون رغم كافة المحاذير مشياً من الفندق حتى حي الحسين، الذي كنت أحرص على السهر فيه من أول ليلة من ليالي رمضان، مندمجاً مع مسيرات وأناشيد تصحبها رقصات دائرية برع فيها بعض المتصوفة وأتباع الطريقة المولوية. عدت من القاهرة بعد أيام قليلة لأكتب تقريراً صحفياً عن استقبال الشارع المصري للحدث الذي رفع اسم الرئيس السادات، وأعاد الاعتبار للجيش المصري، وجعل هذا البلد يفاوض من مركز قوة اختلف جذرياً عن الموقف الذي كان سائداً بعد موقعة 1967م.