لن تأتي بجديد إذا قلت إنك تحب بلادك، فكل إنسان يحب المكان الذي يقيم فيه؛ لكن ليس كل إنسان مستعداً للتضحية بروحه أو صحته أو جهده مجاناً، حتى وإن كان ذلك من أجل الأرض التي ولد فيها ويعيش على أرضها؛ ولكل واحد في سلوك هذا المبدأ أسبابه؛ ففي حالة "أوكرانيا" نزح حتى الآن أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مواطن، فراراً بسلام عاشوا فيه، وأطل عليه ما يهدده، لذلك لابد من الرحيل إلى دول توفر لهم هذا السلام، حتى يعود السلام إلى الديار التي نزحوا منها، صحبة نسائهم وأطفالهم وقططهم وكلابهم وألعابهم وكراريسهم؛ لكن من يحبون الأرض حقاً بقوا، ملتمسين السلام أو الأمان المنقوص في الأقبية والأنفاق وتحت الجسور وفي الحدائق والمدارس والمستشفيات التي يحرص الغزاة ما أمكنهم ذلك على تجنبها؛ بل إن عديداً من هؤلاء المواطنين الأوكرانيين، رفضوا المغادرة، ليس لأنهم يحبون بلادهم فقط، ولكن لأن لديهم كماً من الحيوانات الأليفة والكلاب والطيور سوف تكون عبئاً عليهم إن صحبوها معهم، فبقوا من أجلها وسوف يبقون.. هؤلاء عندهم حب متعدد الولاءات لأنفسهم وأغراضهم وممتلكاتهم، وهم أهون من الذين فروا تاركين وراءهم كل شيء رافعين شعاراً أثيراً: "يا روح ما بعدك روح!". لقد عشت مثل هذه المواقف الصعبة مرتين، وفي كل مرة كنت أحس أن وطني أولى بي، وأن حضنه أكبر وآمن من أي حضن. كانت المرة الأولى في حرب أكتوبر (1973م). فقد وقعت هذه الحرب وأنا في القاهرة وحيداً إلا من كتبي وقلقي، فلا زوجة ولا بيت ولا أولاد. كنت أسكن شقة مفروشة في "شارع فؤاد" الذي قال فيه الشاعر النجدي: "إن مت في شارع فؤاد ادفنوني .. ياطى على قبري بنات مزايين"! في تلك الأزمة أدركت عظمة بلادي، فقد تم جمع من يرغب في الرحيل من المواطنين السعوديين، بعد دفع ما عليهم من مستحقات، وأخذتنا الطائرات مجاناً إلى بلادنا. ومع هذه اللمسة قطعت بلادي البترول أو أوقفت ضخه، تضامناً مع مصر. في وقت كانت بقايا الغيوم مازالت متناثرة في سماء البلدين بسبب حرب اليمن. حرب أكتوبر كانت باباً لمواقف كبيرة من بلد كبير تجاه بلد كبير، جعلت كل مواطن يرفع رأسه محبةً وعرفاناً واعتزازاً ببلاده وأدوارها الكبيرة. الموقف الثاني كان في حرب الخليج، أو حرب غزو الكويت.. في تلك الحرب لم ينزح سكان الكويت من أهلها ومن المقيمين فيها إلى المملكة العربية السعودية فقط، ولكن نزح بعض المقيمين في المملكة إلى ديارهم، عندما لجأ الغازي إلى إرسال الصواريخ إلى مدننا تزامناً مع غزوه للكويت. عندما بدأت تلك الحرب كنتُ للتو قادماً مع أسرتي من تركيا للإقامة بضعة أيام في الإسكندرية، قبل العودة مع أسرتي الصغيرة الى الرياض. وقد تولت الحكومة السعودية عبر سفاراتها ترتيب عودة المواطنين، خاصة بعد أن أصبحت العملة الخليجية و"الترافل شيك" لا قيمة سوقية لهما، عدت إلى الرياض بعد إرسال أسرتي للمدينة، وكان يملؤني إحساس رغم الصواريخ التي تتساقط كل مساء، أنني أضع رأسي على حضن دافئ، رغم كافة الأزمات، التي كانت تحوط المحيط الخليجي!