نحن في الدهر صفحة من كتاب ثم يأتي الردى فيُطوى الكتابُ قد يغيب الحبيب يومًا فنأْسى كيف بالقلب لو يطول الغيابُ؟ رحلة الموت يا وشيك المنايا رحلة لا يكون منها إيابُ الدنيا محطات، وقفات، عبرات وزفرات، ونزيف مستمر من الآلام والأحزان، لم يسلم منها أحد، ولن ينجو من خطوبها بشر، فهي دائمة العزف على أوتار الفقد، واستحضار الذكريات.. ها هي السنة الرابعة مضت على رحيلك يا والدي.. أربع سنوات محملة بالآلام وحرقات الحنين إليك، بعدما توسد جسدك الطاهر الثرى.. لقد رحلتَ وتركتَ بصمة شوق في قلبي لن يمحوها الزمن، ولو شاب رأسي، واحدودب ظهري، فلا أدري كم سأحتاج لأستوعب أنك لم تعد معنا ولا بيننا؟ والدي الحبيب.. لا يوجد كلام يستطيع أن يصف مرارة فقدانك، فعندما يموت الأب يختل توازن الأسرة، ويشعر جميع الأفراد بنقص في كل شيء، فلا يشعرون باكتمال فرحتهم بدونه، وتبقى ذكراه هي الوحيدة الحية في قلوبهم. لقد كنت نعيم حياتنا، ومصدر سعادتنا، والحضن الدافئ الذي نرتمي فيه عندما تدلهم الحياة، فبجلوسنا معك وحديثنا إليك تزول عنا هموم الدنيا، ويتسع لنا قلبك العامر بالحب والحنان، فننعم بفيض من الطهارة والأبوة والحب الحقيقي.. ولكن أين أنت الآن.. لقد رحلتَ يا والدي تاركاً وراءك أنفساً أنهكها الشوق والحنين لرؤيتك، وسماع صوتك، وتنفّس رائحتك والتمتّع بعذب حديثك، والتفاؤل بصالح دعائك، والاهتداء بجميل نصحك والنهل من فيض حكمتك.. كنت يا والدي لدنيانا كالقمر الذي يطل كل مساء، فيضيء عتمة الليل، ويذكرنا أن الظلام يعقبه نور، والحياة مازالت تزهو بصنوف من الجمال والشهامة والنبل.. فراقك يا والدي، ألمٌ وفجيعة وحزن لن يشعر بها إلا من عاش الفراق، وتجرّع مرارته، فأكثر اللحظات ألماً عندما تقف عاجزًا أمام رحيل من تحب، فكلُ فراقٍ يهونُ ويُحتمل إلا فراقُ الأب فإنه يكسرُ الظهر، وألمٌ لا يطاقُ مهما تظاهرنا بالسلوان والنسيان.. لطالما تمنيت يا والدي، أن يعود بي الزمن للوراء، لأعيش معك من جديد، فقد ندمت كثيرًا على كل لحظة ضيعتها دون أن أراك، وأنعم بقربك وأفوز ببرّك.. كم هي الحياة تعيسة في غيابك، وكم هي السعادة ناقصة بدونك.. وها أنا اليوم أقف عاجزاً عن رد جميلك، ولا أملك شيئاً لأصلك به سوى الدعاء.. فوالله ما طلعت شمٌس ولا غربت إلا وذكرك مقرون بأنفاسي ولا شربتُ لذيذ الماء من ظمأٍ إلا رأيتُ خيالاً منك في الكأس ولا جلستُ إلى قوم أُحدّثهم إلا وكنتَ حديثي بين جُلّاسي ولا ذكرتُك محزوناً ولا فرحاً إلا وأنت بقلبي بين وسواسي فقدانُ الأب هو الشعور أن تفقد الحياة وأنت على قيد الحياة، فبرّوا آباءكم، قبّلوهم، احتضنوهم، استغلوا وجودهم، ففراقهم والله أصعب مما يخطر على أذهانكم.. رحمك الله يا والدي، رحلتَ ورحل معك زمنٌ جميلٌ لن يعود، اللهم إنني لا أعترض على حكمك، ولكن الشوق غلبني، ولا طاقة لي بتحمّله.. وداعاً أبي.. وداعاً فللموتِ جُرْح عميقٌ وداعاً فللموتِ ظُفْر ونابْ وداعاً أبي ولْتنلْ حيثُ ترْقى رفيعَ الجِنان وحُسْنَ المَآبْ