مبدأ نفي العزلة والأنس المعرفي والثقافي والعقائدي والوجداني على جميع مستويات النفس وتنوعها لا ينبع إلا من رسوخ فكري متأصل في الشخصية ذاتها وبإيمان به بل والثقة فيه؛ وهذا هو سياج الأمان وتحصين الذات ونشر الحب والخير والسلام بالاستفادة من كل ما هو جديد.. إن الإنسان منذ نشأته الأولى وبطبيعته الفطرية تلك في أي مكان وزمان، وفي أي ثقافة كانت قديمة أو حديثة أو مستحدثة يبحث عن الأنس (المؤانسة) ولذا قامت النظريات تتوالى تترى عبر العصور لسبر أغوار النفس البشرية والإبحار بها نحو هذا الأنس. فالعزلة في الثقافات المتعددة هي الشاغل الأول للفكر العالمي قديمه وحديثه؛ ذلك أنها تبعث على الإحساس بالشقاء وضيق الأفق، وخاصة في تكوين الشخصية العربية؛ التي فرضت على جوهرها منذ القدم السعي نحو الجماعة للتخلص من العزلة وخاصة في مجتمعات الصحراء الموحشة مما يسبب له نوعاً من السعادة بالألفة والمؤانسة. وفي نظرية (السعادة الكاملة) للفيلسوف الهندي بوذا، نجده يرى فيها أن الإنسان لا يرقى إلا بالاندماج التام في روح الكون العليا حتى يصل إلى ما سماه (النيرفانا) أي صفاء النفس، وهي قريبة جداً من الفكر الصوفي فيما سموه ب(الوجد) وهو نوع من الذِكر حتى يصل فيها الفرد إلى درجة الصفاء الذهني حتى ظهر ذلك جلياً في الصلاة التي يصل فيها المسلم إلى نوع من السكينة المطلقة فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه مستنهضاً إياه بالأذان بقوله «أرحنا بها با بلال». إلا أن مع هذا التقدم التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي نجد أن الإنسان قد وجد بغيته فيها هرباً من العزلة المقيتة ولكن في كل ذلك يتبادر لنا تساؤل مهم وهو: هل كانت وسيلة للتواصل والأنس أم أنها زادت من عزلة الفرد وتقوقعه أمام التقنية الرقمية تلك؟ سؤال محير إذ إن هذه التقنية باتت ضرورة لا غنى عنها في حياتنا، وفي الوقت ذاته تعمل على الانفصال التام عن محيطه الاجتماعي في وحدة نفسية مع عالم افتراضي لا يدرك كنهه ولا نعلم معناه! ومما يدعو للدهشة الكبرى ذلك التطور الذي خلق نوعاً من الهلع لدى الأجيال التقاليدية والتي تتراوح أعمارهم بين الستينات والسبعينات فما فوق، ونوعاً من البهجة والفرحة لدى الأجيال الحديثة نظراً لتمكنها من هذه التقنية بأطراف أصابعهم تلك. ففي شهر أكتوبر الماضي ظهر لنا (Mark Zuckerberg) وهو المدير التنفيذي للفيس بوك بإعلانه بتغيير اسم فيس بوك إلى شركة (ميتا فيرس). وفي اعتقادي أن الاسم في حد ذاته لم يأت بجديد، لأن مصطلح (ميتا) يعني (ما وراء) ونحن نعيش في عالم الماورائيات منذ أن ظهرت تلك التقنية إلا أن المصطلح في مجمله (mata fayr) تعني الفوقية وهو أقرب للمعنى الذي نظر له بوذا لكنه لا يحمل جوهره ولا فلسفته. ومن هنا نلج إلى الجوهر وإلى مدى تأثيره في مجتمعاتنا والتي نحرص نحن فيها -كعرب - على الهوية العربية بتقاليدها وعاداتها وقيمها وعقيدتها وكل خصوصيتها التي تشكلت منها هذه الشخصية وتفردت بها، ومن هنا نشأ الخوف والدهشة بين جيلين متقاربين ومتعاصرين في الوقت نفسه؛ فالخوف كل الخوف على الهوية وتكوين الشخصية لدى التقاليدين، والدهشة لدى الشباب والذين يتطلعون إلى عالم مفتوح يحقق لهم رغباتهم وتطلعاتهم، وهذا ما نظر له المنظرون الغربيون بعد الثورات العربية مثل المفكر «فردريك أنديك» على سبيل المثال حين قال عن الشباب العربي: إنهم لا يؤمنون بالهوية والقومية فهم أفضل كثيراً من آبائهم» على حد قوله، ومن هنا نشأت المقارنة بين جيلين فالأجيال التقاليدية أكثر خوفاً وهلعاً بينما نجد ذلك الارتياح بين أجيال الشباب لهذه التقنية. ولكننا نجد على المستوى الفكرثقافي، أن هناك بقعة ضوء بين هذا التضارب الفكري (وبين الخوف والدهشة) ألا وهي خروج العالم العربي بكل ثقافاته -التي لا يعرفها إلا القليل من النخبة الغربية - إلى ساحة فكرية وثقافة عالمية وعلى سبيل المثال ذلك الجهل الذي أُلصق بمفهوم الإسلام حتى ظهر مصطلح (الإسلام فوبيا) والخوف من الإسلام وتقاليده التي لم يفهمها المجتمع الغربي حق الفهم، كما أن أرضنا بجمالها ومتنزهاتها وتقاليدها العريقة وطقوسها وبساتينها وينابيعها وجبالها ووهادها لا يعرفها الكثير، ومن هنا يتمازج العالم بالمعرفة والفكر والثقافة التي كنا نعاني من قلة تعريفها للآخرين. فالثقافة المقدمة عن طريق (الميتافيرس) والتي تعتمد على عالم مصور بتقنية (3D) والتي يصبح فيها وجود الفرد وجوداً افتراضياً بكل حواسه وأيضاً ب(فيزيكله) أي بهيكله بما ينقلنا من عالم المحسوس إلى عالم الملموس وهي فلسفة قديمة ناقشتها في نظريتي (البعد الخامس) - في البحث عن المتعة - فلربما تكون هذه نافذة للمعرفة المتمازجة بين شعوب العالم وهذا جيد؛ ولكن هذا التحفظ لدى التقاليديين أمر يحترم، وذلك لأن الشخصية - العربية بشكل خاص- قد تكون غير جاهزة لذلك الفكر ولهذه التقنية، فربما تتسبب في اختراق فكري وخروج عن التقاليد والأعراف، لأننا لم نهيئ هذه الشخصية وخاصة الشباب إلى مسرح التمازج برسوخ فكري يعتمد على الحفاظ على الهوية ومقوماتها لكي تنتقل طواعية بكل هذه المقومات إلى الآخر برضا وبمفهوم يحترمه العالم بكل أدواته وهنا تكمن الخطورة! إذ إن ترسيخ الفكر العربي - وبمقومات شخصيته التي ندعو جميعاً للحفاظ عليها - في أذهان الشباب يجب أن يسود بشكل قوي ومتين بين أطراف العالم، لكي لا تستخدم هذه التقنية للترفيه فحسب، بل للفكر والثقافة والمحافظة على كل مكنون الشخصية التي باتت مستهدفة وهذا لا يخفى على أحد. فمبدأ نفي العزلة والأنس المعرفي والثقافي والعقائدي والوجداني على جميع مستويات النفس وتنوعها لا ينبع إلا من رسوخ فكري متأصل في الشخصية ذاتها وبإيمان به بل والثقة فيه؛ وهذا هو سياج الأمان وتحصين الذات ونشر الحب والخير والسلام بالاستفادة من كل ما هو جديد كما أسلفنا.