وقف المحاضر الأمريكي وسط القاعة يحدثنا عن التواصل مع "الآخر"، ويبشرنا نحن الحضور من النساء السعوديات بأن الغرب بدأ بتغيير نظرته المغلوطة عنا، وأن الصحف باتت تتحدث عن التمكين الكبير والدعم المستمر الذي تمنحه لنا قيادتنا الرشيدة، ثم أخذ يطالبنا بأن نعرّف العالم أكثر عن "ماهيتنا" وما نحن عليه كنساء في هذا المكان من العالم. كان المدرب، وهو مستشار تواصل وتخطيط أمريكي، واقفا بيننا كمعلم بين تلاميذه، يقدم لنا التوجيه والنصائح، ينظر إلينا بعينين زرقاوين، لم تعنِ لي سوى أن ذكرتني بفصوص فيروز كنت أراها في خواتم الفضة التي ترتديها جدتي - رحمها الله -، وهي تقلب حب القمح (البر) بيدها، وتحكي لي قصص نساء عظيمات من قريتها.! كانت جدتي فاطمة امرأة متعلقة بالطبيعة ومحبة للجمال والأرض، وككثير من نساء جيلها كانت تعشق الشعر وتحفظ الأهازيج وتروي قصصا من التاريخ. كانت أيضا شديدة التعلق والإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانت ترى الموت والحياة بنفس القدر من البساطة والتقبل والتصالح.! وهي امرأة قيادية وحكيمة وشديدة البأس؛ تصدت لأعتى الرجال، تحمي أرضها وتكرم ضيفها وتقود بكل جلد جل أمرها. ترى هل يدرك هذا المدرب بأنه يقف أمام حفيدة فاطمة؟، وحفيدات نورة وحصة وعزيزة وشيخة ومنيرة، وقبلهن حفصة وخديجة والخنساء؟، بأن جداتنا هن سيدات النبل والكرم والصبر، أخوات الرجال اللاتي لم يهزمهن شظف العيش وقسوة البقاء في إحدى أصعب البقاع الطبيعية على وجه البسيطة.! نساء جميلات؛ سرحن الضفائر، وخضبن الأنامل، ونظمن الشعر، وملكن أفئدة الشجعان والفرسان وما عرفن بيع الكرامة والجسد والدين. وكذا جل جداتنا؛ نساء أصيلات "ممكنات" تضرب جذورهن عميقا آلاف السنين في أرض جزيرة العرب. هل يدرك أن أجداده الرحالة الأوروبيين حين قدموا إلى جزيرة العرب، قبل قرابة القرنين من الزمان، كان أكثر ما وصفوا به نساءها أنهن معززات أبيّات، لا يقبلن على أنفسهن ولا على أهلهن الضرر والمهانة، وأنهن مقدامات يضعن كرامتهن فوق كل اعتبار؟. في العام 1880 وصف المستكشف والشاعر الانجليزي تشارلز داوتي في كتابه Travels in Arabian Deserta (رحلات في جزيرة العرب) نساء إحدى القبائل العربية بأنهن "شريكات حقيقيات" في كل البطولات والحروب؛ ففي غياب رجالهن يكرمن الضيف، ويغثن المستجير، ويحمين الديار، وإذا عاد رجال القبيلة أطلقن تهاليل الفرح وضمدن الجريح وأسعفنه بالرماد والخرق. اليوم، يقف هذا الرجل الغربي أمامنا معجبا، ومقرا بكل ما وصلنا إليه كنساء سعوديات. يتحدث إلينا في إحدى القاعات البهية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن؛ الصرح العلمي الشامخ، الذي سمي كذلك احتفاء واعتزازا بامرأة عظيمة؛ نورة بنت عبدالرحمن، شقيقة جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله -، وهي أكبر جامعة نسائية في العالم، يدرس بين أروقتها اليوم زهاء ال30.000 شابة سعودية واعدة، ويقوم عليها ما يزيد على 5000 موظفة سعودية، بينهن ما يقرب ال1800 معيد ومحاضر وأستاذ مساعد ومشارك وبروفيسور، تخرج معظمهن من أرقى جامعات العالم؛ ينشرن مئات البحوث سنويا، كثير منها في المجالات العلمية والطبية. لقد أدرك "الآخر" اليوم حقيقة الدعم والتمكين اللامحدود الذي منحته حكومتنا الرشيدة - حفظها الله - للمرأة، وأنها اليوم جزء لا يتجزأ من قيادة التنمية الجبارة والمتسارعة التي تحدث في بلادنا. وعلى المرأة السعودية أن تتذكر دائما عظمة تاريخها، وعمق جذورها، وأن تعتز، كما تفعل دوما، بهويتها الفريدة، وأصالتها، وانتمائها لأرضها، وأجدادها. أن تلم أكثر بتراثها العريق لتنطلق منه بكل همة نحو المستقبل المشرق؛ أن تدرك أنها امرأة مختلفة بحق؛ "امرأة من القمة". * أستاذ مساعد في الترجمة والتبادل الثقافي جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن