خصّ الصادق المهدي "الوسط" بهذه المذكرات، قبل اعتقاله. واستغرق اعداد هذا الجزء اكثر من خمسة شهور بسبب الوضع الذي كان يعيشه في الاقامة الجبرية في منزله في ام درمان. وعندما فاتحت "الوسط" المهدي بنشر مذكراته رحب بالفكرة، معتبراً ان الظروف التي يعيشها قبل العتقاله تعتبر الأفضل للتفرغ لتسجيل المادة التي ضمتها مجموعة من الاشرطة بلغ عددها 16، فيما كانت الجلسات معه تعقد مرتين أو ثلاث اسبوعياً. وتوقفت اللقاءات بعدما أوقفت السلطات في الخرطوم زعيم الانصار وأدخلته السجن... لذلك تحتوي المادة الأولى التي ستنشر على حلقات، عرضاً لأسرة آل المهدي والحياة الخاصة لأبنائها ومراحل تعليمهم وثقافتهم وفكرهم ودخولهم العمل العام من خلال سيرة الصادق المهدي الذي يعد في السودان شخصية مثيرة للجدل، ولا ينكر احد انه دخل التاريخ الحديث لبلاده من أوسع أبوابه. وهنا مقدمة كتبها الصادق بنفسه لپ"الوسط". ثم عرض لجذور الاسرة استنادا الى الحوارات التي دارت معه وما قدمه من وثائق وكتب: مقدمة بقلم الصادق المهدي "كتبت في مواضيع مختلفة ومراحل خاصة من سيرتي، لكنني لم افكر بعد في كتابة مذكراتي. ومن حسن الحظ ان ظروفي الحالية جعلتني اوافق على طلب الأخ العزيز كمال حامد ومجلة "الوسط" نشر جوانب مهمة من سيرتي الذاتية وأتمنى ان تسمح الظروف مستقبلاً بكتابة مذكراتي كاملة. ان من يشارك في العمل العام يكون من حق الاجيال ان تعرف الكثير من حياته وتطالع ما لم يكن معروفاً. وهنا يجب ان نعترف ان لكل شخص الحق في أن يقبل ما يقبل، ويرفض ما يرفض، وألا يقبل الأمر كأنه مسلّم به، وهكذا سنّة الحياة وطبيعة الحوار. أنا شخصياً كنت اكثر الناس حرصاً في مخاطبتي للأجيال السابقة من الذين شاركوا في الحياة العامة السياسية، بأنهم لم يدونوا مذكراتهم لتكون رافداً من روافد المصادر التاريخية والفكرية والأدبية. ولكن للأسف استطيع القول ان قلة قليلة جداً فكرت في تدوين مذكراتها. وفي هذا الصدد اعتقد ان افضل من كتب ونشر مذكرات هو السيد أمين التوم - امد الله في ايامه - وأعتقد أن التحدي ما زال قائماً للذين شاركوا في الحياة العامة السودانية. وللاجابة على طلبكم فإنني أرى ان سيرتي الذاتية يجب ان تشمل خمس نقاط: الأولى: انني فتحت عيني على الحياة، على صدى بعض الاحاديث الغيبية العارضة وكانت تصدر من ثلاثة اشخاص، أولها حديث قاله عمي السيد يحيى عبدالرحمن المهدي، وكان يكبرني بأربع سنوات. وهو كطفل في الرابعة من عمره كان يردد "مهاجر سيأتي من كبكابيه". والمعنى الذي كان يقصده ان شخصاً ما ذا دور ما سيأتي من كبكابيه، وهي مدينة معروفة في دارفور غرب السودان وكان بعض نساء الاسرة من اللواتي كنّ على وشك وضع حملهن يسأل يحيى المهدي: "هل هذا مهاجر؟" فيجيب بالنفي. وذات يوم حكت لي والدتي ان يحيى قال لها "مهاجر جاي الخميس". وبالفعل ولدت يوم الخميس. وكانت هذه اشارة غيبية أولى غامضة. ثانيها: ان جدي الامام عبدالرحمن روى انه عندما جاءه نبأ ولادتي كان يقرأ سورة ابراهيم. وكان والدي يريد ان يسميني ابراهيم، ولكن كان لدى جدي الامام ضيف، وبينما هما جالسان جاء طائر القمرية واستقر فوق عمامة جدي الذي قَرَّ بأن هذا نبأ. وخلال حديثه مع الضيف الزائر اخبره بمولدي ورد عليه الضيف: "لماذا لا تسميه بأحد اسميك"؟ وكان اسم جدي الامام عبدالرحمن الصادق، ولهذا ربط ما بين الرأي والنبأ وسماني الصادق. لهذه الحقيقة كنت ألمس منذ بداية صلتي به انه يعاملني معاملة خاصة حتى انه ذات يوم وأنا معه، وكنت في سن صغيرة، قال لوالدي "ابنك هذا ماشي يِسِدْ فَرَقْتي"، أي سيملأ الفراغ بعدي. وعندما قال ذلك بكت أمي فقال لها "الموت أمر لا بد منه". الحديث الغيبي الثالث ان جدتي السيدة أم سلمة بنت المهدي رأت رؤيا وحكت لبنتها في حضوري وقالت "انها رأت في رؤياها انني أقف على مئذنة وأقول "اذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" وقالت لوالدتي "ابنك هذا سيكون له شأن". مع هذه المقدمات في حياتي وطفولتي، استطيع القول ان طفولتي وتعليمي لم يتأثرا بأي تعليم خصوصي، بل كان تعليمي من أكثر المراحل التعليمية تخبطاً وفوضى، بمعنى ان تعليمي لم يخضع لأي تدرج منهجي معين. بل حتى دوري السياسي لم يكن بتخطيط، ولم اخطط لمستقبلي السياسي على نحو ما حدث. فقد كنت احلم بمستقبل مهني زراعي، فكيف حدث هذا التحول والتخبط التعليمي والواقع السياسي غير المتوقع؟ هذا ما لم استطع فهمه وتفسيره. بمعنى ان الله سبحانه وتعالى أراد وشاء أمراً لم أكن أريده او أشأه. وهنالك حديث للامام علي كرم الله وجهه "عرفت ربي بنقض العزائم". وهذا ينطبق على سيرة حياتي. فإنه من حيث تعليمي ومستقبلي العام لم تكن هنالك أي خطة. وما كان من عزائم الخطط فقد تغير. اما المسائل الغيبية التي تحدثت عنها فانها لم تلعب أي دور من حيث التخطيط لدوري في الحياة، الا انها كانت تلعب دوراً أساسياً لاعطائي ثقة بالنفس بأنّ عناية ما ستحرسني. وهذه العبارات لعبت دوراً كبيراً في شد إزري وأنا أواجه ظروفاً صعبة جداً في الحياة، اذ كانت تلك الاحاديث الغامضة بمثابة تطمين مع شدة الظروف والمعاناة التي واجهتها في حياتي. النقطة الاولى التي اقدم بها لهذه السيرة: ان ما تم في واقع حياتي لم يكن خاضعاً لتخطيط ما لأن ما كان مخططاً ومؤملاً تمت مخالفته في كل التفاصيل. النقطة الثانية التي اذكرها هي ان حياتي يمكن ان تقسم لقسمين رئيسيين: الأول ومقداره 23 سنة، ويبدأ من مولدي حتى العام 1958. وتلك المرحلة سأتحدث عنها بالتفصيل، ثم يأتي القسم الثاني وهو تقريباً السنوات ال 35 الاخيرة، والتي تكاد تتزامن مع الحكم الوطني في السودان الذي قد يكون بدأ قبلها بسنتين، لكن الحكم الوطني من 1958 الى الآن يكاد يتزامن مع معايشتي للحياة العامة. استطيع القول ان السنوات الخمس والثلاثين الماضية تكاد تمثل حالة الصراع بين الديموقراطية والاوتوقراطية في ستة نظم حكمت السودان. وأتحدث عنها كشاهد عيان عبر هذه المذكرات لتكون شهادتي لتاريخ السودان. النقطة الثالثة هي انه مع حديثي عن سيرتي الذاتية لا أستطيع أن أغفل حقيقة انني أنتمي الى أسرة لعبت ولعب بعض افرادها دوراً تاريخياً معيناً في قصة السودان الحديث، خصوصاً جدي لوالدي الامام عبدالرحمن المهدي، ووالدي الامام الصديق المهدي، وجدي لأمي السيد عبدالله جاد الله. هذه الشخصيات الثلاث سأجد نفسي مضطراً الى ان أحكي تفاصيل تمزج ما بين العام والخاص لأوضح أثر هؤلاء في حياتي، وما حصلت عليه من فهم وادراك من توجهاتهم وخبرتهم الخاصة والعامة. وسأضطر الى التعرض لآخرين ممن لعبوا دوراً عاماً في تاريخ السودان ودوراً عاماً وخاصاً في حياتي العامة والخاصة. النقطة الرابعة انني وجدت طوال حياتي من يقول ما معناه انني ولدت وفي فمي ملعقة من فضة، وان أهلي صنعوا مستقبلي، وانني صنيعة وصدى لهذه الحقيقة. وانا اؤكد وسأذكر ديْن الذين نشأت في كنفهم والكيان الذي انتمي اليه، ولا شك في انه ديْن كبير. لكن النقطة التي تحتاج الى التوضيح هي ان الذين يحلو لهم الحديث عني كطائفي وابن أسرة سيندهش هؤلاء حين يعلمون الحقيقة العارية التي بنيت على البلاء من واقع سجل الاحداث، مع الاعتراف بالحق لأهله وما لقيته من بلاء. فقد قمت بدور عام في تاريخ بلادي سأبين أبعاده في كل المراحل الماضية. واعتقد بأنني من أكثر الذين تصدوا للعمل العام وتعرضوا للسجن لفترات تبلغ ثماني سنوات، ومن اكثر الذين تعرضوا لعقوبات مالية على فترات مختلفة. ولدي مساهمة فكرية غير مسبوقة من معاصري. وكذلك، أياً كانت حقوقي وامتيازاتي الوراثية فإنني اعتقد بأنني من أكثر الناس معرفة بالسودان فقد طفته أربع مرات، ولا أظن ان هذا تأتى لأحد قبلي، وكذلك من أكثرهم معرفة بالعالم، فقد طفته كله تقريباً في سياحة ليست للهو، إنما من باب العمل الديبلوماسي والسياسي والفكري، وهذا نادر بين معاصري. وساهمت في الفكر السياسي بأفكار - أياً كان رأي الآخرين فيها من تأييد ومعارضة - هي من أكثر ما ساهم به عاملون في الحياة العامة في الفكر السياسي. وأحب ان يحكم الناس على تجربتي ليس على اساس وراثي وإنما على اساس ما لاقيته من بلاء. واعتقد بأن الذين يريدون صرف النظر عن البلاء والتركيز على الموروث سيفاجأون بالحقيقة وأقول "هاكم اقرأوا كتابي". ولا أدعي العصمة في هذه المذكرات لكنني احاول التزام الموضوع قدر الاستطاعة لأنني أعتقد أن واجبي نحو أجيال السودان وقراء العربية أن أكون أميناً في نقل التفاصيل". المهدي الإمام الأكبر يعد الصادق المهدي احدى الشخصيات الاساسية في تاريخ الاسرة المهدية في السودان. وقد تأثر بالرصيد الهائل لهذه الاسرة التي تمثل أهل شمال البلاد، وعاشت كما يعيش أهل الشمال الذين يتحركون جنوباً حين تضيق بهم سبل العيش. وسعى بعضهم الى الرزق، وبعضهم الى العلم. والحركة من الشمال الى الجنوب تاريخية، ومعظم اسر وسط السودان وشرقه وغربه وربما جنوبه عرف حركة النزوح هذه. يقال أن أصل أسرة المهدي من الحجاز وتنتسب الى الحسن بن علي، رضي الله عنهما. وهذا النسب معروف ومدون في النجف الاشرف في العراق، حيث تسجل كل انساب الاشراف. وقد نزحت الاسرة من الحجاز الى مصر، ومنها جنوباً الى السودان، حيث عاشت في جزر على نهر النيل، لا تزال تعرف بپ"جزائر الاشراف"، ومنها جزيرة لبب التي ولد فيها الامام محمد احمد المهدي بالقرب من مدينة دنقلا، اشهر مدن شمال السودان. ويوجد في جزيرة لبب كيان ديني يتبع للطريقة الشاذلية منذ حوالي ستمئة سنة. وقد اشتهر من اولياء هذا الكيان الحاج شريف الذي كتب عنه المؤرخ السوداني محمد ود ضيف الله في كتابه "الطبقات"، وسماه "الولي المعمر" لأنه عاش طويلاً. وتوجد قباب على الضفة الغربية لجزيرة لبب، مبنية بالمواد المحلية منذ مئات السنين، وقد دفن تحتها الحاج شريف وابناؤه وحفدته. ويعمل معظم أفراد اسرة المهدي في وسائل مختلفة لكسب العيش، فالجد الأكبر، وهو عبدالله بن فحل كان يعمل في صناعة المراكب، ودخل في تعاقد مع الحكومة لبناء عدد منها لكنه وجد شحاً في الاخشاب، ولهذا قرر الانتقال جنوباً حيث الظروف أفضل. واستقر مع أسرته في منطقة النوفلاب القريبة من جبل كرري قرب أم درمان الذي دارت حوله لاحقاً المعركة الشهيرة بين قوات المهدية وحملة الجيش البريطاني - المصري. وفي منطقة النوفلاب توفي الشيخ عبدالله بن فحل، وكان معه أولاده محمد الاكبر الذي تولى عمل والده وخلفه في صناعة المراكب. اما محمد احمد وهو الابن الثالث، فأظهر منذ بداية حياته ميلاً نحو التعليم والتعلم أكثر من ميله الى العمل الكسبي. وتعلّم القرآن. ومن عادة اهل السودان ان يتعلموا القرآن واللغة ثم يتجهون نحو الطرق الدينية. وكانت المعرفة لدى أهل السودان تغترف من بابين: التعلم والتطرّق، أي اخذ الطريقة. ويعتبرون ان من لم تكتمل له الحلقتان فقد نقص قدره. "هذا النهج معناه في عرفهم تحصيل علم الشريعة عبر دراسة الكتاب والسنة والسيرة واللغة العربية وتحصيل علم الحقيقة عن طريق التصوف". ولهذا بعدما فرغ محمد احمد ولد عبدالله من علوم الدين والمعارف المتاحة في زمانه، تطلع الى الطريقة، وأخذ الطريقة السمّانية على يد الشيخ محمد شريف نور الدائم ثم الشيخ القرشي ود الزين الذي نال اجازة من الشيخ راجل أم مرح، مؤسس الطريقة السمانية في السودان. مختلف الاطوار كان محمد احمد شخصاً مختلف الاطوار، وبدا منذ نعومة اظفاره أنه ينطوي على شيء مختلف، ولذلك، بقدر ما افلح في التعليم والتعلم، وصار معروفاً بالصلاح، اخفق في المسائل المعيشية، بسبب صلاحه وحبه للحلال الخالص. يظهر ذلك في المواقف الآتية: حاول ذات مرة ان يعمل في تجارة الحطب والفحم فعرف من احدى النساء انها تشتري الوقود منه لاستخدامه في تقطير الخمور البلدية فاعتبر نفسه شريكاً في المعصية وترك تجارة الحطب والفحم. عمل في تجارة الذرة مع شريك قال له إنه يود الذهاب بعيداً، ليحصل على سعر أعلى، فباع نصيبه الى شريكه وعاد. يقال مرة ان أحداً جاءه في الجزيرة أبا طالباً منه ان يمنحه أحد عبيده ليساعده في الخدمة، فقال له: ليس لي عبيد، ومن تراهم ملك لأخي الأكبر، ولما ألحّ عليه الرجل، قال له: "ما عندي عبيد وسأدفع لك رقبتي". وبالفعل اقتاده الرجل، فاستوقفوه في الطريق وعوّضوه ليترك الطلب. عندما كان محمد احمد يدرس لدى الشيخ محمد الخير في مدينة بربر شمال السودان رفض الأكل مع الآخرين لأن الحكومة كانت تصرف على الخلاوى وتدعمها، وكان محمد احمد يرى ان الحكومة تظلم الناس بجمع الضرائب، ولهذا اعتبر الدعم حراماً، وكان يكسب قوته خارج الخلوة، وقيل انه لا يضع الطعم في الصنّارة عند صيد السمك، ويعتبر ذلك خداعاً وغشاً لا يجوزان. وكان محمد احمد يرى التناقض بين الحياة والشريعة مما سبّب له متاعب كثيرة. وكان قلقاً على اسرته، وغير راض عمن حوله، ومستنكراً لما حوله، وركز همّه على تحصيل العلوم الشرعية وأخذ نفسه بالشدة البالغة من نوع الرياضة الروحية. وكان يبحث عن خلوة خاصة فذهب الى الجزيرة أبا التي كانت مهجورة الا من بعض افراد قبيلة الشلك، ولحق به أخوته الذين وجدوا فيها ضالتهم من وفرة الاخشاب لصناعة المراكب. وتصاهرت الاسرة بواسطة كبيرها - اخوه محمد - واسرة كبير الشلك في القرية. وهناك الآن بعض أفراد اسرة المهدي ممن خلّفتهم هذه المصاهرة، منهم عبدالمولى وبتول وزهرة وثلاثتهم من أم شلكاوية. أسس محمد احمد خلوة في الجزيرة أبا، واشتهر بالصلاح حتى ان المراكب البخارية النهرية التي كانت تمر بين الجنوب والشمال كانت تطلق صافرات تحية للجزيرة والولي الصالح الذي يسكنها. وروى كاساتي في كتابه "عشر سنين في الاستوائية": "حينما جاءت باخرتنا الجزيرة أبا قلّت سرعتها تحية للوالي الصالح وصفّرت". كان محمد احمد قبل اعلان "الدعوة المهدية" يجهد نفسه بالرياضات الروحية حيث كان يتعبد في الشتاء على صخرة رطبة على النيل الأبيض، وفي الصيف يختار غاراً تحت الأرض شديد الحر لنوع من المجاهدة الروحية. وذات يوم روى المهدي انه خوطب بالمهدية وقال: "هجمت عليّ الدعوة. اني عبد مأمور باحياء الكتاب والسنة المقبورين"... وانطلق في الدعوة حتى أرسى الدولة وتوفاه الله. ثم استمرت الدولة حتى انقضّت عليها قوى الاستعمار. وهكذا عاش أبناء المهدي وابناؤهم وأحفادهم على تلك السيرة. وانطلق الأطفال والصبيان على بطولات الآباء والأجداد التي يرونها شديدة الشبه ببطولات صدر الاسلام. نشأ الصادق المهدي وأقرانه من أبناء أسرة المهدي على أحداث السيرة العامة المنبثقة من ذكرى المهدية اذ كان المهدي ورجاله وبطولاته وانجازاته المثل العليا التي تتجسد فيها صورة "محي الدين البطل المؤسس المحرر المجدد القائد الذي لم يهزم قط". وهو الزاهد الذي كانت قصص زهده تملأ سماء أم درمان يرويها الرجال والنساء للشباب وكذلك تكتيكاته الحربية ومواجهته للمستعمرين الأجانب. حتى رضع الأطفال والصبيان هذه الحكايات من أمهاتهم وجداتهم. ومن القصص التي لا تزال تروى عن زهد المهدي ان امرأة جاءته لتشكو من ظلم لحق بها فوجدته يطهو طعامه بنفسه وهو ينفخ في النار فعادت مندهشة. ويحكى أيضاً أنه اشتهى أكل كبد إبل فاحضروها له فما كان منه إلا أن بكى بحرقة قائلاً: "أصبحنا ملوك دنيا نجد ما نشتهي. هذا امتحان للعبد". وكانت للمهدي نظرة خاصة في المرأة بخلاف نظرة معظم السودانيين في القرن الماضي. ولهذا كنت تجد النساء بين تلاميذه. وعلّم بناته تعليماً مستنيراً. ويروى أنه كان يحرص على حضور ولادة الزوجة ويقول "ان في ذلك أجراً". كان مرة يسرع الخطى لحضور ولادة احدى زوجاته فقالت له احداهن: "لم العجلة فقد ولدت بنتاً". فاستنكر منها ذلك وقال "البنت مالها؟ تجيب الصالح والفالح من بطنها ولداً ومن أهله زوجاً". وكان يتمنى لو له مائة بنت ليربط بهن كل قبائل السودان. وكان هذا ديدنه حيث جاءت مصاهراته وعلاقاته ممثلة لكل السودان. فالخليفة عبدالله من الغرب، وعلي ود حلو من الوسط، ومحمد شريف من الشمال، وعثمان دقنة من الشرق. ولهؤلاء عهد بخلافاته الأربع ويوجد قول انه عهد بالخلافة الثالثة للشيخ السنوسي. توحيد الارحام وحرص المهدي في كل مصاهراته على أن تكون من أجل توحيد الأرحام لكل أهل السودان. وكان بيت المهدي ولا يزال يمثل عصبة لكل قبائل السودان حيث لا توجد قبيلة ليس لها وجود في أسرة المهدي. ولهذا لم تكن عصبية القبيلة موجودة لدى آل المهدي. وكان المهدي يمثل القمة دينياً ووطنياً وسياسياً لما حوله ولا ينكر أدواره هذه الا مكابر. فقد أسس الدولة الاسلامية الأولى في السودان وطبق الشريعة وحرر البلاد وطرد الأجنبي منها ووحدها بكل طوائفها وقبائلها وجهاتها وجعلها معروفة لكل العالم. وعهد المهدي بخلافته لعبدالله ودتورشين وهو من قبيلة التعايشة في جنوب غربي السودان. وكان من المؤكد ان يجد هذا التعيين معارضة من حوله. ولكن كانت الطاعة للقائد الذي وجد السودانيون بعد وفاته ان الخليفة شديد الولاء للمهدي، حتى أنه أضاف تسمية المهدي له ب "خليفة الصديق" تسمية نفسه "خليفة المهدي". لكن هذا لم يمنع من ظهور معارضة للخليفة من بعض آل المهدي وأقاربهم وكبار رجال الدولة من أهل وسط السودان الذين تعارف الناس على تسميتهم "ناس البحر"، يعني أهل النيل، وتسمية الآخرين "ناس الغرب"، وأدى الخلاف الى نوع من الاستقطاب ظهر واضحاً في أسرة المهدي. ويجيب السيد الصادق المهدي على سؤالنا عن اثر هذا الاستقطاب ورؤية الأسرة وموقفها من الخليفة عبدالله فيقول: "بالنسبة الى أسرتنا المباشرة كان الأمر مختلفاً حيث كنا أشد ولاء للخليفة عبدالله وذلك لخلفية سأفصلها: والدي وهو الصديق ابن الإمام عبدالرحمن وحفيد المهدي الذي والدته بنت الخليفة شريف ووالدتي رحمة بنت عبدالله جادالله وأمها أم سلمة بنت المهدي وجدّتها فاطمة بنت حسين الحجازية من أم جر وكانت تلميذة للمهدي قبل زواجها منه، أي كانت علاقاتها به ايديولوجية أكثر منها رحمية وعلى رغم أن أهلها من "ناس البحر" إلا أنها كانت شديدة الولاء للخليفة عبدالله. السبب المباشر لهذا الموقف هو التزامها الايديولوجي بالموقف من الخلافة، فخليفة الصديق هو الخليفة الأول. وتعمق الاحساس نفسه لدى ابنتها أم سلمة التي كانت أثناء المهدية زوجاً لعثمان شيخ الدين الابن الأكبر لخليفة المهدي. ثم تزوجها بعد المهدية الشيخ عبدالله جادالله وولد منها اثنين محمد شريف ورحمة، والدتي. وقد انتقلت هذه العاطفة نحو الخليفة من جدتنا الكبرى فاطمة بنت حسين الى جدتنا أم سلمة الى والدتنا رحمة الينا جميعاً. والحقيقة ان الوالدة والجدة كانتا النبع الذي نهلنا منه سيرة أبطال المهدية. ولهذا كان ولاؤنا للمنهج والبلاء أكثر من الحسب والنسب". ونشأ الجيل الثاني والثالث من آل المهدي على صدى نهاية الدولة المهدية والتنكيل الذي لحق بالأسرة بعد موقعة كرري واستباحة مدينة أم درمان والمعاملة السيئة التي وجدها آل المهدي من الحكومة الاستعمارية الجديدة، وكذلك كل قادة الدولة الذين شتت شملهم. واستشهد من أسرة المهدي ابنه محمد في كرري، ثم استشهد ابنه الصديق في أم دبيكرات فابناه الفاضل والبشري في الشكابة. وعومل الباقون من أفراد الأسرة معاملة سيئة. فقبض عليهم وأرسلوا الى منفى في مدينة رشيد شمال مصر. وهناك عاشوا حياة صعبة. وتعرضوا لأمراض فتاكة مثل السل والربو فمات منهم عبدالله ونصرالدين والطاهر. عبد الرحمن وكان عبدالرحمن الابن الأصغر للمهدي صغيراً 13 سنة، وبقي على قيد الحياة، فأعاد ترتيب البيت وكيان الانصار لاحقاً. بعد الهزيمة في موقعة كرري اتجه الخليفة عبدالله ومعه القوة الباقية غرباً للاستعداد لمواجهة أخرى مع القوة الغازية. أما الخليفة شريف فتأخر في خروجه في الاتجاه نفسه وخرج تصحبه النساء والأطفال والأسر الباقية. واتجه بعض القادة ومن معهم من الجنود نحو الخليفة عبدالله، مثل الأمير أحمد فضيل. ولئلا تتجمع قوات المهدية مع الخليفة عبدالله فرضت السلطة الاستعمارية الجديدة مراقبة على الطرق المتجهة غرباً. ووصل الخليفة شريف ومرافقوه الى مدينة تندلتي وهناك أصابهم الاعياء والتعب والجوع فأرسل لهم الخليفة عبدالله 80 جملاً ليلحقوا به غرباً، لكن الجوع جعلهم يأكلون 40 منها، فيما حملت البقية الأسر التي رابط أربابها مع الخليفة في أم دبيكرات وبقوا في تندلتي. لكن قوة بريطانية يقودها عبدالرحمن اب دقل تمكنت من أسرهم وتسليمهم الى الحكومة التي عرضت عليهم ان يختاروا المكان الذي يودون الاستقرار فيه فاختاروا الجزيرة أبا، لكنها رفضت وعرضت عليهم الاستقرار في منطقة دنقلا فرفضوا... واستقروا في نهاية المطاف في البرياب بالقرب من مدينة ود مدني وكانوا تحت الرقابة المستمرة. وكانت السلطة تنوي ابادتهم باعتبارهم آخر ما بقي من المهدية، وبينهم أفراد من أسرة الإمام المهدي. وبالفعل تم تدبير بلاغ كاذب أنهم ينوون القيام بثورة. وكان سبب البلاغ بسيطاً، وهو ان أفراداً من الانصار شاهدوا باخرتين في النيل الأزرق فصاح أحدهم: "الدين منصور". وكان هتافاً تقليدياً للجهاد في المهدية، فاعتبرته الحكومة دليلاً على وجود مؤامرة وثورة. فعقدت لهم محكمة ميدانية أمرت باعدامهم جميعاً، وكان فيهم الخليفة شريف والفاضل والبشري ابناء المهدي. وهنا ثمة رواية لنجاة الفتى عبدالرحمن المهدي 13 سنة من الموت: كان حكم الاعدام للرجال دون النساء والأطفال. وهذا لا يشمل عبدالرحمن المهدي الذي ظل واقفاً بالقرب من أخويه الكبيرين الفاضل والبشري اللذين عز عليهما ان يراهما في ذلك المشهد وهما ينتظران تنفيذ الاعدام، فطلب منه البشري ان يذهب الى البيت ليأتيه بمسبحته فذهب وعاد بالمسبحة ليجد أن حكم الاعدام قد نفذ في الجميع. وكانت أم عبدالرحمن، السيدة مقبولة بنت نورين محمد الفضل من سلالة سلاطين دارفور تتصف بالشجاعة والاقدام فرفعت ولدها عبدالرحمن الى البريطانيين طالبة منهم أن ينفذوا فيه أيضاً حكم الاعدام لأنه إبن المهدي. وبالفعل أطلق أحد الجنود رصاصة استقرت في صدر الفتى عبدالرحمن، وترك يعاني من الجرح والنزف باعتباره ميتاً لا محالة... ولكن شاءت العناية الإلهية أن يبقى الفتى حياً، فطاب جرحه وقوي عوده، وأعاد مجد آبائه ورتب الكيان الممزق بعدما ظل مع السنين هو المسؤول عن أسرة كلها عجزة ومسنون ونساء وأطفال هم آخر ما بقي من أثر المهدية.