مسيرةٌ حافلة قضاها الدكتور عبدالرحمن الجديع بين الأدب والسياسة، انطلقت تلك المسيرة من إحدى أقدم بلدات العالم «دومة الجندل»، قبل أن يجوب ضيفنا العالم، في خدمة دينه ومليكه ووطنه، تاركا بصمة مميزة في كل المحطات التي مرّ بها، وطوال تلك المسيرة حمل الجديع إلى جانب حقيبته الدبلوماسية روحا شعرية وأدبية خفاقة تستمد من تجربة صاحبها واختياراته مادةً أدبية تعبر عن مكامن ذكرياته وحرقات قلبه ومواجيد نفسه، كل ذلك ممزوجا بفيض الوجدان وترانيم عبق الأزمان «الشعر»، في الحوار التالي نحاول استمطار سحائب التجربة الثرية، والانتجاع بشواطئها الممتدة.. * نبدأ حوارنا من مهد طفولتكم «دومة الجندل»، تلك البلدة العتيقة ذات الجذور التاريخية العميقة، ماذا تعني لكم الصلة ببلدة تحمل تلك الحظوة التاريخية والثقافة المتجذرة؟ وتأثيرها على تكوينكم الثقافي والشعري؟ * في البداية اسمحوا لي أن أرحب بكم، وأن أشكر جريدة «الرياض» الغرّاء على هذا الاهتمام وإتاحة هذه الفرصة للحديث معكم. في الحقيقة لست أدري من أيّ حُسن أختار لأتحدث عن دومة الجندل، هل أتحدث عن عبق التاريخ وما تحتويه من كنوز التراث الإنساني منذ أن كانت مملكة «أدوماتو» إبان العهد الآشوري والبابلي وبها مسجد عمر بن الخطاب وقلعة مارد هذا الحصن الذي وقف شامخاً معانداً لكل الغزوات ولم يستسلم أو يهادن كل من حاول الاقتراب منه، الملكة زنوبيا فشلت في مد نفوذها وبسط هيمنتها على هذه المدينة العريقة. أم أحدثكم عن سمر الليالي وندى أسحارها وألفة الجيران، خصوصاً في المناسبات، مثل شهر رمضان؛ حيث نقضي أحلى الأوقات، وبالذات أثناء صلاة القيام؛ لما يتخللها من تأمل وسمو بالروح في لحظات الخشوع، وما زلت أذكر رائحة البخور الذي يعبق في أروقة المسجد. أم أحدثكم عن المناسبات الاجتماعية والمهرجانات التي عادة تحصل في مواسم الحصاد، وتلك البيادر التي تقام. كسر البروتكول الملكي السويدي احتفاء بالملك سلمان إنّ هذا الزخم من الإرث التاريخي والاجتماعي والثقافي لا بد أن يسهم في صقل شخصية الإنسان، إذ إنّ عملية بلورة الشخصية تأخذ بعين الاعتبار تلك الحضارات والثقافات، وتبقى موائد الحنين ونوستالجيا الماضي تتوهجان في الذاكرة. * ماذا بقي في الذاكرة من بدايات تشكل موهبتكم الأدبية والشعرية؟ * كانت أولى محاولات كتابتي الشعر وممارسة المطالعة في المدرسة الابتدائية الشرقية في دومة الجندل، كما تبلورت شخصيتي القومية العربية في تلك الفترة؛ حيث كنا ننشد في مدارسنا لفلسطين قصيدة (أخي جاوز الظالمون المدى) للشاعر على محمود طه، التي كانت تعمر الوجدان وتحرك شتى المشاعر القومية والوطنية فينا، نحن الطلبة، وكذلك كنا نغني لثورة الجزائر عبر نشيد (بلاد العرب أوطاني) للشاعر فخر البارودي. هكذا كانت بداياتي الثقافية. فلقد أدركت منذ صباي أنّ لديّ موهبة الشعر والكتابة، فعملت على مواكبة القراءة في كتب الأدب العربي، خصوصاً وأنّ شخصيتي في الصغر كانت تنحو نحو العزلة. هناك محطات أو نقاط مررت بها في حياتي وتركت بصماتها على تكويني الفكري والثقافي وتجربتي الشعرية، فقد كنت في المراحل الأولى أقلد الوالد الذي كان شاعراً مجيداً في الشعر النبطي، ولكني أحببت الشعر العمودي؛ لأنني شعرت أنّ الشعر العمودي هو المعبر عن ذاتي ومشاعري وما يدور في نفسي. والحقيقة أنّ الشعر العمودي لا يزال يشكل القاعدة الأساسية لكل أنواع الشعر مهما تعددت الأنواع ويبقى لسان العرب وحافظ تاريخهم ومكانتهم الثقافية. * حدثنا أكثر عن تجربتكم الشعرية؟ * الثقافة والإبداع والمكابدة في الحياة تتيح للإنسان البواعث التي تحفزه على العطاء أكان أديباً أو غير ذلك. الشعر عمل إبداعي إنساني يعكس روح الخلق والإضافة لدى الشاعر، ويمنح القدرة على التعبير دون قيود أو حدود في الرأي والمواقف الإنسانية. كتابة الشعر عملية تجسد ما يدور في نفس الشاعر من خلجات يتعامل من خلالها مع نفحات الحب والجمال التي يجد فيها تجارب تعبر عن مكامن ذكرياته وحرقات قلبه ومواجيد نفسه، كل ذلك ممزوجاً بفيض الوجدان الذي يكون إنسانيته، وما أحسبني إلا واحداً من أولئك الذين يعبق الجمال في نواظرهم فيدوّنون ما يجول في الخاطر من مشاعر وعواطف تذوب أمام سيالات الأرواح التي تتجاوز حكماً الموت لتعبر إلى الأسرار العلوية. * أي الشعراء نال إعجابكم وترك أثرا على نفسكم الشعري قديما وحديثا؟ * طوال مسيرتي كان لي مساري الخاص المتواضع، وأكتب الشعر عما يلامس قلبي ويستفز عقلي وخيالي، أكتب عن تلك المواضيع التي تسكنني وتوقظ معها انفعالات الحنين والشوق وأحياناً الألم. لا شك أنني مثل غيري من المهتمين بالثقافة والشعر قرأتُ للكثير من الشعراء الكبار؛ أمثال المتنبي والبحتري وأبي تمام، والمعاصرين أمثال أحمد شوقي وعلي محمود طه وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف وإيليا أبو ماضي وسعيد عقل حيث تشرفت بلقائه عدة مرات. ويمكن القول إنني تأثرت من حيث الثقافة بالمدرسة الشامية؛ فهناك نزار قباني وعمر أبو ريشة ومحمود درويش وأمين نخلة والأخطل الصغير وإلياس أبو شبكة وطارق آل نصر الدين وجورج شكور وشوقي بزيغ ورفيق روحانا وجوزيف الصايغ وياسر بدر الدين. لبنان شكّل واحة الأدب في الوطن العربي. أما غازي القصيبي فتجمعني به المواطنة والزمالة الدبلوماسية، وكان يعطف عليّ وعلى أمثالي بقراءة قصائدهم، وله الفضل بالاطلاع على أول ديوان كتبته بعنوان «وحي الغربة». وبعد موافقته تجرأت على نشر الديوان، وكذلك كانت لي لقاءات كثيرة ومعارضات شعرية مع د. عبدالعزيز خوجه، ود. عبدالعزيز التويجري، المدير السابق للإيسيسكو، وقد جمعت بعض هذه المعارضات في ديواني الأخير «ظمأ وسراب» ولكن لا بد من القول إنّ تأثري المباشر كان بشعراء جمعتني بهم مدينة نيويورك، ومن أبرزهم الأديب الشاعر طوني شعشع ويوسف عبدالصمد ود. جورج يونان. ومع ذلك ألفيتُ أنني لا أحب الانتماء إلى أي مدرسة أو التقليد. القصيبي شجعني على نشر ديواني الأول * ما ظروف محاولة إعادة إحياء الرابطة القلمية الجديدة التي كنت أحد أقطابها وكيف تصف تلك التجربة؟ * في غمرة إقامتي في نيويورك كقنصل عام للمملكة كانت هناك صفحات مضيئة وأخرى قاتمة. أما الجانب المضيء في تواجدي في نيويورك فقد انطلق من اهتمامي بالثقافة والأدب، وكان من حسن الطالع، أنني تعرفت على أدباء وشعراء من لبنان وسورية، مثل الأديب والشاعر طوني شعشع والشاعر يوسف عبدالصمد والدكتور الأديب جورج يونان والأستاذ جان ماضي والدكتورة سميرة ماضي والسيدة الفاضلة ميرفت زاهد والدكتورة أميرة زاهد وهما من فتح أبواب متحف داهش لإقامة فعاليات الرابطة القلمية دون مقابل. وقد فكرت مع هؤلاء الزملاء في إعادة إحياء الرابطة القلمية التي كانت قد أنشئت في الفترة 1920- 1931 وكان عميدها جبران خليل جبران، وقد أشرقت الرابطة القلمية الجديدة بفضل جهود الزملاء في مدينة نيويورك وولدت في شقتي عام 2005 على هدى الرابطة القلمية الأصلية، وأصبح الشاعر يوسف عبدالصمد عميدا للرابطة القلمية الجديدة ويعود الفضل له في استمرارها، وقد أوضحت في إحدى الفعاليات أنّ الهدف من الرابطة القلمية لا أن تحل محل الرابطة الجبرانية، ولكن الاقتداء بسيرة أولئك الرواد العظام ومحاكاة منجزاتهم فكراً وشعراً وأدباً وفناً، وتحمل في رسالتها أهمية إذكاء الأنشطة الفكرية في نيويورك وتقريب الثقافات بعضها البعض والانفتاح على الثقافات الأخرى وتعزيز اللقاءات الأدبية والفكرية، وخلق فرص الحوار بين النخب الفكرية الثقافية بالمهجر، خصوصاً في ضوء الغياب العربي على الساحة الأمريكية، لا سيما على المستوى الفكري والثقافي. ولي العهد كان مهتماً بالتقنية والتنمية المستدامة * كانت لخادم الحرمين الشريفين زيارة للسويد والنرويج أثناء تمثيلكم المملكة هناك. حدثنا عن تلك الزيارة؟ o لعل من أجمل اللحظات المضيئة والمشرقة في فترة عملي في السويدوالنرويج الزيارتان الرسميتان اللتان قام بهما سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - عندما كان أميراً للرياض إلى مدينة ستكهولم عام 2008 وأوسلو 2010. في السويد وأثناء الترتيب للزيارة الميمونة تواصلت مع الماريشال في القصر الملكي السويدي ورئيس التشريفات الملكية وأبلغته بأن يكون لقاء سيدي مع جلالة الملك وولية العهد، وقد ذكر أنّ هذا مخالف لقواعد البروتوكول في القصر، وقد أوضحت له أنّ سيدي شخصية كبيرة ومؤثرة وفاعلة، وأنّ ذلك يصب في دفع العلاقات السعودية السويدية في وقتنا الحاضر، وقد أمهلني بعض الوقت وأنه سيعود إليّ. وفي اليوم الثاني أبلغني بأنّ جلالة الملك كارل السادس عشر غوستاف قرر أن يستقبل الضيف الكبير سوياً مع ولية العهد الأميرة فكتوريا، وذكر أنها المرة الأولى في تاريخ السويد التي يستقبل فيها الملك وولية العهد ضيفاً رسمياً معاً، وبذلك قام القصر الملكي في السويد بكسر البروتكول الملكي السويدي؛ تقديراً لسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وقد كان سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان مشاركاً في هاتين الزيارتين وهو الشخصية المعروفة بريادة الفكر والاهتمام بالقيم السياسية والمقومات الاقتصادية للدول. لقد كان سموه الكريم متابعاً لما يجري خصوصاً بما يتصل بالتقنية والتنمية المستدامة، وقد تابع باهتمام بالزيارة إلى مدينة (هامري سيستاد سيمبايو) في ضواحي مقاطعة ستكهولم ضمن زيارته للسويد وهي مدينة نموذجية قامت على الأفكار الحديثة تراعي متطلبات البيئة المستدامة وإعادة التدوير، بالإضافة إلى الاستغلال الأمثل للمسطحات الخضراء وتوظيف التقنيات الحديثة في التصاميم (Clever Technology) في المدينة. دومة الجندل مدينة بعمر الزمان * ما قصة نقل أثاث بيت السفير من ستكهولم إلى أوسلو أثناء الزيارة؟ * هذه الحكاية صحيحة، كيف عرفت بها؟ من الأمور التي حدثت أثناء زيارة الملك سلمان إلى النرويج أنّ الزيارة صادفت مهرجاناً غنائياً كبيراً في مدينة أوسلو Euro vision، مما شغل كافة الفنادق، وأسلو مدينة صغيرة وفيها فندق واحد ممتاز هو جراند أوتيل وقد تمكنت من حجز فيه عدة غرف ولكن لا تكفي للوفد الكبير فبحثت عن فندق كبير آخر إلا أنني لاحظت تواضع أثاث الفندق وهو أمر معروف في كافة فنادق أوسلو، مما دفعني إلى شحن كامل أثاث بيت السفير من ستوكهولم إلى أوسلو وفرش جناح الأمير بهذا الأثاث مما لاقى استحسان الوفد المرافق. * أخيرا.. كيف تصف تجربتك الدبلوماسية طوال الفترة الماضية؟ * بلا ريب إنّ تجربتي في الحياة الدبلوماسية، خلال فترة عملي الطويلة في هذه المهنة قد أسهمت في صقل مهاراتي الشخصية والمهنية، وفي إثراء معارفي بالحياة الدبلوماسية وتقاليدها، كما ساعدت هذه المعارف في تحمل أعباء وظيفتي على الوجه الأكمل، وقد كان مردودها إيجابياً، حيث تم تكريمي بعدة أوسمة في هذا المضمار. لهذا أودّ أن أؤكد أنّ التكريم الذي يناله أي سفير سعودي في الخارج هو بمثابة تكريم للمملكة هذا الوطن الكبير والعظيم بقيادته الرشيدة. وقد حظيتُ بتقدير ملك السويد كارل السادس عشر غوستاف بمنحي وسام النجم القطبي الملكي «The Royal Order of the Polar Star" من الدرجة الأولى برتبة قائد، وهو الوسام الأرفع الذي يمنحه الملك لغير رؤساء الدول في السويد تقديراً للجهود في تعزيز العلاقات الثنائية بين المملكة والسويد، وقد كنت أول سفير سعودي ينال مثل هذا التكريم من جلالة الملك، وهو أمر أعتز به وأتشرف. انطلقت الرابطة القلمية من شقتي في نيويورك أما في المغرب، فقد تم منحي «الوسام العلوي» تقديراً من جلالة الملك محمد السادس لجهودي هناك، بالرغم من الفترة القصيرة التي عملت بها وهو أمر أفتخر به؛ لأنني عملت بأعلى مقاييس المسؤولية والالتزام بالمعايير المهنية والاستقامة الشخصية أثناء فترة عملي وتأديتي للمهام الموكلة إليّ، وهذا ما يبعث في نفسي رضا، ويغمرني بالسكينة، وهناء البال، والتوق الدائم، الذي لا ينقطع، إلى خدمة وطني بكل جوارحي. السفير الجديع متوسطاً من اليمين نقولا الخوري وسعيد عقل وايلي الترك والرئيس شارل حلو ووجان عرابي أثناء تقليده بالوسام العلوي من ملك المغرب محمد السادس د عبدالرحمن الجديع أثناء تكريمه من ملك السويد بوسام النجم القطبي الملكي