ترى لماذا يكتب الشعراء قصائد النهايات والتوديع؟ ولماذا تأتي دوماً موجعة؟ وكأنها مبضع في يد طبيب لا يرحم.. يخترق الجسد بكل آلية ودون توقف.. غير مبال بآهات مريض أو نزف دم.. ثم يهديها لمن فارقه بكل عنفوان.. ألم يخرجه وينهيه من حياته؟ لماذا يعاود التفكير به ويطرز له أجمل أبياتٍ تردد وتكتب وتغنى..؟؟ سؤال طالما أشغلني.!! من منظوري الخاص أن الشاعر المجروح يريد بهذه الأبيات أن يخيط جرحه ليندمل، بل إنه يطرزه تطريزا فنيا بتلك القوافي العذبة.. وكأنه بعدما أخرجه من حياته وفك الارتباط به، يمحو من قلبه كل مكانة له، ويعلن للبشر ولعقله اللا واعي أنه لم يعد عديلا لروحه ورفيقا لدربه.. لنبحر في أعماق قصيدة وداعية فريدة طرزتها لنا شاعرة ذات جزالة فذة.. معروفة باسم "عيون المها" عنونتها ب: (رح فمان الله) (وما أقسى صيغة الأمر عندما نتخلى..) هنا صرحت بطلب الفراق دون تلميح، واختارت لها قافية مؤثرة مبهرة، نظمتها بأسلوب ضمير المخاطب لتواجهه مباشرة دون وسيط، نكاية به وإمعانًا بتوجيه ضربات الألم له. تقول الشاعرة: عيون المها (شفت لوتاصل من الشوق لحدود السحاب لو يدينك تلمس الغيم ويرش مطره) تبدأ الشاعرة بامتناع عندما تقول: شفت لو تاصل من الشوق؟؟ ثم تغريه بمنظر لطيف (لو تاصل حدود السحاب) هذه اللو الشرطية الأولى المستحيلة هل تقاس المسافة؟ هل نستوعب الفجوة؟ هل نستطيع تخيل درجة الاقصاء؟ يصل وبعد الوصول ماذا؟ تأتي اللو الثانية (لو يدينك تلمس الغيم ويرش مطره) وهذه أكثر استحالة من الأولى، ومن منا لا يتمنى أن يعيش هذه التجربة؟ ولكنها لو مستحيلة، خيالية. وكأنها تقول: مهما وصلت درجة إغرائك لي.. فلن ماذا؟ سنعرف بعد قليل.. (لو تجيب من الهدايا هداياك العذاب لو تحاول تقطف الورد من كل شجره) يستمر مسلسل التحديات وما زالت تتلو شروطها ولكن لغة التحدي تخف أكثر فأكثر، مقارنة بلمس السحاب، هذه المرة تتخلى وتتبرأ من حبها للهدايا والورود.. وأي امرأة تستطيع الفكاك من الانبهار بها، لكن شموخها لم يعد يتقبلها منه، يبدو أن الأمر جلل والجرح أعمق من دمح الخطأ وتقبل العطاء. (والله إلا تشرب المّر وتذوق العذاب وأنت ما حركت فيني ولو قدر شعره) هنا في هذا البيت الذي يقف أمامه شعر الرأس فعلا.. إجابة لشروطها المحالة الممتنعة السابقة.. تقسم بأنها ستسقيه المر وتجرعه العذاب بكل قسوة وبكل عنفوان دون أن يهتز لها طرف أو يتأثر قلبها الرقيق بما سيعانيه.. ترى ما السبب لماذا كل هذا؟! تخبرنا قائلة: (غلطتك غلطة عمر ما حسبت إلها حساب هزت القلب وتجشم ضلوعي وكسره) تعلن هنا سبب التحدي الكبير الذي أكثرت فيه من تصعيد الحدث وأوصلت التصالح لطرق مسدودة بل محالة أخبرتنا بأنها "غلطة" وتلك الغلطة لا تغتفر سببت للقلب هزة على إثرها تهشمت الضلوع... (غلطتك ما هي نتيجة شره والا عتاب لجل اسامح واجبر القلب يرجع باثره) أخذت تصف الغلطة بأنها ليست بسيطة يستطيع العتاب أن يحلها ويمحوها، وينتج بعد ذلك السماح، وعودة ذلك القلب لمكانه بعد تلك الهزة.. (قلبي اللي من عرفتك فتحته باب.. باب جيت واحد بس كنك مجند بعشره) ذلك القلب الذي خذلته قد فتحت لك مغاليقه مذ عرفتك.. واحتللت فيه مكانة عشرة أشخاص رغم أنك شخص واحد.. صورة جميلة من شاعرتنا توضح مكانة ذلك المحبوب ولكن بعد فوات الأوان، إنها تذكر المكانة هنا لكي تمعن بالتعذيب ولا ترتجي منه شيئًا.. فلم يكن شخصًا عاديًا بنظرها، لقد جاءها وكأنه مكرر عشر مرات أغناها عن الناس أجمع واكتفت به. ولكن ما أصعب أن نتحول عن كرسي العرش في قلب أحد ما.. (غلطتك اكبر من الشوق في حال اغتراب واصعب من الدائره بس في رسم الكره واصعب اصعب من تفاصيل شكل الانسكاب اشبه في حالة ذهول البحر للي عبره) هنا تعود مرة أخرى لوصف الغلطة لتؤكد على أثرها البالغ في قلبها، تخبره بأنه كبيرة في حقها غطت على لواعج الأشواق في نفس كل مغترب وأنها أصعب من رسم الكرة المستديرة من خلال دائرة وأصعب من وصف تفاصيل الانسكاب عندما يهطل بلا هوادة، إنه يشبه ذهول العابرين للبحر بأهواله وسطحه المضطرب.. وأعماقه الموغلة بالغموض. (رح ف امان الله رحلة ذهاب بلا إياب رحلة بهديك بوردنقها والتذكره) بصيغة الأمر تأمره بالرحيل وتودعه بكل أريحية فهي لم تعد تريد إلا ذهابه عن دنياها بلا عودة وفوق ذلك لديها الاستعداد لتحمل نفقات ذلك الرحيل!! أي إقصاء هذا؟ (رح وانا بودعك مثل توديع المصاب من حفر قبرٍ لغاليه وبيديه قبره) أي شموخ وأي كبرياء غطى على تلك المكانة لدرجة أنها تريد أن تواريه من حياتها بصورة حسية متعارف عليها ندفن موتانا بألم ولكنها تعد بأنه ستدفنه وبكل عنفوان بدون أي تأثر.. (وكان قلبك هاقي إني بدونه في عذاب قله ان القلب والله فلا جاب خبره ) يستمر مسلسل العزة والكبرياء.. في خاتمة القصيدة ترسل رسالة لقلبه إن كان سيعتقد أن قلبها يتعذب بسبب هذا البعد تطلب منه أن يخبره بأن قلبها لم يعد يذكره أو يعنيه وأنه سيكون بخير.. قصيدة أعتبرها من عيون القصائد، ومازالت تظهر على الساحة وتمثلها الكثيرون؛ لأنها تلامس وجدان المتلقي.. وليس أي متلقي.. منْ يحمل في ذاته العزة والشموخ والكبرياء.