شاهدت قبل أسابيع برنامجاً وثائقياً، من حلقات، يتحدّث عن (تاريخ الألفاظ النابية) في اللغة الإنجليزية، وقد أعجبني هذا الوثائقي لأسباب ليس من بينها كوني أحب استعمال الألفاظ النابية أو أميل لاستخدام أسلوب الشتم وذم الآخرين؛ ولكن السبب الأساسي هو أنه يُسلط الضوء على مسألة التطور الدلالي لبعض الألفاظ مع مرور الزمن، وكيف تنتقل من حقل الاستعمال اليومي العادي إلى حقل ألفاظ الذم التي يُحظر على المرء استعمالها إلا في نطاق ضيق واضطراري، وفي بعض الأحيان تكون العملية عكسية باندماج لفظ الذم أو الشتم في سياقات جديدة تجعله مقبولاً ولا يثير أي شعور سلبي لدى الناس، أو يكون ذلك اللفظ مقبولاً أو مرفوضاً بحسب طريقة النطق والاستعمال. ومن الأمور التي تعرّض لها البرنامج وتزيد من أهمية الحديث عن تاريخ الألفاظ النابية، ما لاستخدام تلك الألفاظ من أثر نفسي جيد على المتكلم يساعده أحياناً على تفريغ طاقته السلبية حتى لو لم تكن موجهة لشخص بعينه، إضافة إلى ذلك فإنها جزء مهم من التراث الشعبي يتعرض في أغلب الأحيان للتغييب، لا سيما في ثقافتنا العربية التي تؤكد دائماً على ضرورة الالتزام بالأخلاق الفاضلة ونبذ كل ما يتعارض معها كعبارات وألفاظ الذم والشتيمة. وفي ميدان التراث الشعبي، شعراً ونثراً، يستطيع الباحث كتابة حلقات على غرار حلقات برنامج (تاريخ الألفاظ النابية) يستعرض فيها أبرز ألفاظ الذم الشعبية التي شاع استعمالها في كلام الناس في الماضي والحاضر، لكنه سيواجه تحديات كبرى من أبرزها صعوبة معرفة دلالات الألفاظ الغامضة التي مات معظمها ولم يعد مستخدماً على ألسنة الناس. والمصدر الأول الذي يمكن أن يستقي الباحث معلوماته منه هو الشعر الشعبي الذي لا يقتصر حضور ألفاظ الذم فيه على شعر الهجاء فقط، ففي الحكمة على سبيل المثال ترد ألفاظ ذم كثيرة ككلمة (ديش) في قول صقر النصافي: يا علي لا جيت المجالس لا تجي ديش خبلٍ ليا جاب السوالف سردها ونجد ألفاظ الذم تكثر في قصائد بعض الشعراء كبندر بن سرور الذي ترد في أبياته ألفاظ مثل: «هيس»، «لاش»، «بلّاس»، «هذّار»، أو كلمة غريبة مثل: «هيت» في قوله: ماني وأنا بندر بهيتٍ ولد هيت هيتٍ يجامل خمّةٍ يكرهونه أمّا المصدر الثاني المهم الذي يمكن الاستفادة منه فهو بلا شك معاجم الكلمات الشعبية كالمعاجم التي وضعها الشيخ محمد بن ناصر العبودي، ولا بد أن تقابلك فيها ألفاظ ذمٍ لم يكن لبعضها حضور في الشعر الشعبي، وقد أحسن الشيخ في تدوينها وشرحها وتوضيح سياقات استعمالها برغم ما بينها من تفاوت في الإقذاع والاستعمال. والجميل في كثير منها أنها تُضمر دعوة إلى تعديل سلوك خاطئ لا يقبله المجتمع، ومن ذلك أن الشاب الصغير كان يُخاطَب بالقول: «أنت رجل والا رِجرجّة؟ فيقول: أنا رجل». ومعنى رِجْرجّة: «الفتي الذي لم يكتمل نضجه العقلي»! ودوّن العبودي ألفاظ ذم كثيرة كانت مستعملة مثل: «هقاقة»، و»خرخوتي»، و»بهبوه»، و»قرضامي»، و»مبرسم»، و»هلافي»، و»فهاهة»، و»مهكاكة»، وغيرها من ألفاظ الذم التي سأعود للحديث عن بعضها إن شاء الله.