قام الشيخ محمد بن ناصر العبودي برحلتين شاقتين وشيّقتين استمرتا لأكثر من نصف قرن من الزمن، وآثر الشيخ -متّعه الله بالصحة- أن يُشركنا في مُتعتهما وأن يتحمّل هو وحده كل ما فيهما من مشاق ومصاعب لا حصر لها. الرحلة الأولى هي رحلته الجغرافية في كثير من بلدان العالم، وهي الرحلة التي جعلته جديراً بلقب (عميد الرحالين)، ووثقها بأسلوب أدبي رفيع وممتع في سلسلة تتألف من 198 كتاباً يجد القارئ معظمها مُتاحاً في المكتبات أو على الشبكة. أمّا الرحلة الثانية، وهي التي تهمّني هنا، فأبحر فيها مولياً وجهه جِهة تراثنا الشعبي الذي يشبه المحيط الذي لا ساحل له في اتساع فنونه وغزارته، وقد بدأ هذه الرحلة عام 1379ه بإصدار كتابه المعجمي (الأمثال العامية في نجد)، ومنذ ذلك العام وإلى عامنا هذا وهو مُستمر في العطاء وإصدار عشرات المعاجم التي حفظت كنوز تراثنا الشعبي من الضياع. رغم مشقة العمل على المعاجم إلا أن العبودي استطاع بجهد فردي جمع عشرات المعاجم التي لا غنى للقارئ وللباحث عن الاطلاع عليها، ودوّن فيها جزءاً كبيراً من تراثنا الشفهي الشعبي المهدد بالضياع والاندثار، وكثيراً ما يؤكد الشيخ في مقدمات معاجمة الثرية والممتعة على أهمية المعاجم لفئات مختلفة من بينها الأجيال الجديدة، الأجيال التي لن يتمكن أفرادها من فهم التراث فهماً تاماً وصحيحاً إلا بمعرفة الألفاظ التي كان أجدادنا يستخدمونها في شؤون حياتهم ثم بادت، أو كادت، بمرور السنين، فعلى سبيل المثال يقول العبودي في مقدمة معجم (كلمات قضت): "ظلت تلك الكلمات التي ماتت من الاستعمال عند عامة الناس، وبخاصة عند الأجيال الصاعدة ذكريات أو كالذكريات في أذهان الكبار والمسنين الذين عاصروها نشطة، ثم شهدوا ارتخاءها أو مرضها حتى موتها.. وهذا ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب الذي يضم آلاف الألفاظ، والكلمات العامية التي قضت نحبها". قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المقصود بالأجيال الجديدة التي تحتاج لمثل هذه المعاجم هم صغار السن من الفتيان والفتيات، لكن الشيخ يخبرنا في مُقدمة (معجم السفر والارتحال عند العامة) أنه اتجه لتدوين هذه المعاجم بعد ملاحظته لصعوبة إدراك الأبناء والبنات ممن تجاوزوا حداثة السن لمعاني كثير من الألفاظ الشعبية لأسباب مختلفة، يقول: "مما حملني على تأليف هذه المعاجم ما لاحظته من أن كثيراً من أبنائنا صاروا لا يعرفون شيئاً من غرائب الألفاظ التي كنا نتكلم بها، وقد أجريت تجربة على طائفة منهم من الأبناء والبنات ممن يحملون شهادة الدكتوراه، ومن البنات بناتي الثلاث اللاتي يحملن شهادة الدكتوراه ويعملن أستاذات في جامعة البنات، فلم يعرفن أقل من النصف من تلك الألفاظ، وغيرهن لا يعرفن منها الربع ونحوه". وهناك فئات أخرى في حاجة ماسة لمثل هذه المعاجم للنهوض بدورهم على أكمل وجه، وسأعود للحديث عن أهم تلك الفئات، وللحديث عن أبرز السمات والخصائص التي تفرّدت بها معاجم العبودي وجعلت من تجربة الاطلاع عليها تجربةً في غاية الإفادة والإمتاع. Your browser does not support the video tag.