لكل ظاهرة معجمها اللغوي الذي لا يولد بالمصادفة بل بموجب وعي ومشاعر الكائنات البشرية التي تؤسس للظاهرة والمعجم في آن. لأن اللغة كائن بيلوجي يكبر وينمو بنمو الاستعمالات وتزايد التوليدات اللفظية. كما يتضخم بمقتضى آليات التخاطب اليومي. وهو منحى يمكن ملاحظته في غابة التوحش التويترية. التي يرتفع فيها بشكل يومي منسوب المفردات الشتائمية والاصطلاحات التبخيسية، بل تتكاثر فيها عبارات القتل والتصفية الجسدية بشكل يثير الهلع، ويدفع المخلوقات الُمسالمة إلى مغادرة هذا الفضاء الذي تحول إلى محل للتكاره الإنساني، أو سلوك دروب خالية من الوحوش المنفلتة من عقال ألسنتها. المتخلية عن إنسانيتها. وأنت تتصفح الموقع لا بد أن يصيبك بعض شرار ذلك التشاتم المتطاير في كل مكان. وللأسف هذه المفردات التصفوية لا تصدر فقط عن المتعصبين من مشجعي المدرجات، ولا عن المتمذهبين من أنصار الفرقة الناجية، ولا من الطارئين على الثقافة والمجتمع ممن يوصفون بالسوقيين، بل باتت هي اللغة التي يتقنها ويتفنن في تفريخها ورعايتها من يصنفون أنفسهم في خانة النخب. بما في ذلك الرموز التي تشرعن اللعن بنصوص مقتطعة من سياقاتها، أو مؤّولة بمزاج وهوى شخصي. الأمر الذي أدى إلى تنامي معجم الشتم والتحقير والتأثيم، لنجد أنفسنا أمام ركام هائل من الكلمات النابية، المتأتية من ذوات مأزومة تعاني من أمراض نفسية وفكرية واجتماعية، نتيجة انخفاض منسوب الآدمية في داخلها. حتى الموت في تويتر لم يعد له ذلك الإجلال والاحترام. فما أن يُعلن عن موت أحد حتى يبدأ التباري بين الخصوم في التمثيل بجثمان الميت وتاريخه وسمعته. حيث يُعبر عن موته بمفردة صادمة ( هلاك ). وهي كلمة تنم عن حقد بشري لا تفسير له إلا سوء طوية قائلها، وفساد نسيجه الداخلي، وتمكّن سموم الكراهية منه إلى الحد الذي يدفعه للتشنيع على مخلوق بات بين يدي خالقه. لأن الهلاك بمنظور المتلفظين بها تعني أن رمزاً من رموز الشر قد تم التخلص منه، وأنهم أدرى بنواياه وأعماله ومآله الأخروي. وهكذا تتصاعد لغة التشفّي ومفرداتها بشكل مرعب، فيما تغيب أو تتضاءل عبارات الترحّم والمغفرة. وذلك بسبب نزعة التصنيف الطاغية. وغياب بانوراما التنوع والتعدّد والاختلاف. بمجرد أن يكتب أحد..ما ..تغريدة مخالفة لهوى وأفكار بعض المغردين ترتفع الأصوات بحماسة ( ألقمه حجراً ) وكأن معركة من معارك الإنسان الهمجي الأول على وشك الحدوث. حيث يوحي هذا النداء بمواجهة دامية ما بين كائنات بدائية تتعارك بالحجارة والعصي، ولم تتأهل بعد باللغة والفكر والرأي والتسامح. وهذه نتيجة طبيعية لانتفاء الحسّ الثقافي وتردّي الحال الحضاري عند معظم مرتادي تويتر. إذ يعتقد أغلب أولئك بأن فضاء تويتر لا يتسع إلا للمعارك، وأنه قد تم تصميمه لتفريغ شحنات الكراهية والغضب وفائض الأمراض النفسية وأوهام القوة. إذ لا يلتقي فيه إلا الأعداء الذين يفكرون في أخبث الطرق وأسوئها لطرد الآخر والإجهاز عليه. وعندما تبدأ أي مجادلة بين اثنين لا تنقدح الأفكار وتتالى من أجل الوصول إلى مستخلصات مفهومية أو مشتركات شعورية، بقدر ما تتأسس الردود إلى حسّ التربّص والرغبة في تدمير الآخر وإحراجه، وعدم التسامح مع هفواته وزلاته. حيث يتحلّق الجمهور حول المتصارعين بانتظار اللحظة المرتقبة. أي حين يوجه أحدهم إلى الآخر لكمة كلامية موجعة. وحينها تتعالى الهتافات ( تم قصف الجبهة ). حيث يتم تناقل ذلك الفاصل من الحوار تحت هذا العنوان بفائض من الابتهاج. الأمر الذي أدى إلى ظهور فئة ممن يحلمون باكتساب لقب قاصفي الجبهات. بما يحمله هذا اللقب من حسّ العدوانية واستدعاء الأجواء الحربية. هذه المفردات في الغالب تصدر عن متفرجين. أي عن الناس الذين لا يصنعون الأحداث. ولذلك يكتفون بإدارة المعارك الكلامية الغبية من خلال هواتفهم الذكية. والجمهور دائماً ينقسم إلى فريقين لزوم التشجيع. ولذلك ينتظر هؤلاء وصول أخبار جبهات القتال الفعلية وساحات الحروب المشتعلة في العالم العربي. وما أن يُعلن عن مقتل أي أحد من هذا الطرف أو ذاك حتى تتوالى عبارات التشفي والانتشاء (تم الدعس). وهي عبارة متداولة بين مختلف الفرقاء بكثافة ولا مبالاة ولا إنسانية. وتلك هي سيكولوجية المتفرج الذي لا يجيد إلا عدّ الأهداف والضحايا. ولا يمكن أن تخرج منه عبارة عقلانية أو مفردة مؤانسة. في تويتر تحول المعتقد إلى شتيمة، حيث تنتعش فكرة اتهام الآخرين بمعتقداتهم. وتتفشى حالة من الانفلات في وصم الآخرين بالمروق والتطرف والرجعية والعنف والجهالة والإرهاب بمقتضى هوياتهم. لدرجة أن من يرتاد تويتر يشعر أنه في غابة بالفعل. وأن هناك من يمتلك من الاستعداد للاعتداء عليه بالعنف اللفظي بدون سبب. وأن معجم هذه الغابة بكل أبعاده الشتائمية والاتهامية والتحقيرية والاستفزازية، آخذ في الاتساع، والتضييق على أي هامش إنساني جمالي. وكأن بعض مرتاديه يريدون القول بأن هذا هو مكان للوحوش. وإن لم تكن وحشاً فلا تقترب. والأسوأ أن معجم الألفاظ النابية هذا يختزن طاقة كبيرة من العدوى. ولا تنفع معه وصية نيتشه عندما أوصى بتجنّب التحول إلى وحش عند مصارعة الوحوش.