من لا يُحدِّدُ هدفه ثم يعمل لأجله قد تمشي أموره لكن لا يصمد أمام مفاجآت الطوارئ، ومتى كان الهدف بعيد الأمد سنيَّ المرتبةِ متعلقاً بمعالي الأمور مرجواً إفضاؤه إلى المصالح العامة فهو دليلٌ على علوِّ همة صاحبه وثقوب نظره، والغالب أنه إذا تحقق تعدَّى نفعه، وأقرَّ عينَ المجتهد فيه لم تكن الحياة مجرَّدَ مرحلةٍ زمنيةٍ يجتازها الإنسان كيفما بدا له، بل هي فرصة له؛ لكي يكتسب من العمل ما فيه المنافع الدينية والدنيوية، وأبواب تلك المنافع كثيرة متفاوتة، وليس من المعتاد أن يُنجز فيها إلا من وُفِّق لمعرفة ما كان ينبغي عليه أن يتعاطاه في سبيل ذلك، ثم بعد معرفة ذلك بذل الجهد في تحصيله، ويتم ذلك من خلال رسم الهدف المنشود الذي يسعى إلى تحقيقه، وعليه فلا بد للناجح من أن يضع نُصْبَ عينيه أهدافاً مهمة يسير نحو تحقيقها بخُطى الواثق الذي لا يتزحزح ولا تعرقله العقبات، وبنظرة اللبيب الذي لا ينخدع بالمظاهر، وللناس فيما يتعلق برسم الأهداف وعدمه طرق: الأولى: طريق الناجح، وتتمثل في رسم الهدف المنشود والعمل على تحقيقه على الوجه المناسب لمثله؛ فإن الأغراض متفاوتة ولكل منها وسيلته الملائمة لطلبه، ولا شك أن نيل رضوان الله وأداء حقه في العبادة أسمى الأهداف وأكثرها ضرورية، ووسيلة السير إليه الديانة والصيانة، ومن جعله هدفه لم يقنعه شيء دونه كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إن لي نفساً تتوق إلى معالي الأمور، تاقت إلى الخلافة فلما نلتها تاقت إلى الجنة)، أما أهداف الحياة فكثيرةٌ وبينها بونٌ حسب أولويتها وكونها من قبيل الضروري أو الحاجي أو التكميلي، وما منها شيءٌ إلا ويحتاج إنجازه إلى تخطيطٍ ومتابعةٍ وجلدٍ في استمرارٍ، وحكمةٍ في التدبير، ولا ينبغي أن يجعل الإنسانُ مهمةً من مهام حياته جاريةً على نمط عدم المبالاة، ومرتجلة التدبير، لا فرق في ذلك بين المهامِّ الواسعة كالتي يضطلع بها في الشأن العام وبين المهمة الخاصة كتدبير المرء معيشته، فقد قال عمر بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه متحدثاً عما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْبِسُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْ تَمْرِهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» أخرجه مسلم، وهذا يدل على أهمية التخطيط السنوي لميزانية الأسرة، وهكذا في سائر الشؤون إنما الحزم فيها أن يأخذ لها الإنسانُ أهبتَها وصدق القائل: ولكنَّ مَن لم يَلْقَ أَمْرًا يَنُوبُهُ ... بِعُدَّتِه يَنْزِلْ به وهو أَعْزَلُ الثانية: طريق المتعثر، وهو الذي لا تثبت قدمه على دربٍ من دروب التخطيط، فيبدأ في التوجه في طريقٍ نافعٍ، ثم يقطع السير قبل نيل الثمرة، ويتوجه إلى مجالٍ آخر مستأنف، وهذا ينشأ عن أنواعٍ من الخلل منها عدم تقدير أهمية الأهداف المرجوَّة؛ فالبضاعة المزهود فيها من شأنها أن لا تُبذل فيها الأثمان الباهظة، ومنها النَّهَمُ الشعوري المبالغ فيه، فبعض الناس يعاني من شرَهٍ غيرِ محمودٍ فيما يتعلق بالطموحات بشكلٍ خارجٍ عن المألوف يتعدَّى حدود ما يُحاوله النبهاء من الأخذ بطرفٍ من مختلف الفضائل، بل تجده وقد تعلَّق قلبه بأن ينال كل المزايا المادية والمعنوية بشكلٍ متوازٍ وبالصورة التي قلَّما يُحصِّلها في كل مجالٍ إلا المتخصص فيه الناذر له وقته وجهده، ولما كان ما يتصوره هذا المبالغ معسوراً لم يجد بُدّاً من التذبذب بين الأهداف كأنه لا يُصدّقُ عِظمَ الجهد الذي عليه أن يبذله حتى يصطدم بالواقع فينكمش، وتمنيه نفسه أن المجال الآخر سيكون مختلفاً، وسيصير فيه مضرب مثلٍ وخبيراً بأدنى كُلفة، فإذا رأى غير ما ظن انصرف، وهذا يدخل في عموم ما نهى الله عنه في قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ). الثالثة: طريق المتهاون الذي لا يرى أيَّ داعٍ إلى التخطيط لهدفه، فهو يمضي في حياته كيفما اتفق له، وسالك هذا الطريق -غالباً- ممن ضعفت همته عن مزاحمة الأَكْفَاء، وقد يغترُّ بما ينساق له من المطالب من غير سلوكٍ للطريق الصحيح، ويخفى عليه أن رسم الهدف واتخاذ الوسائل المؤدية إليه لا يُدَّعى أن الحياة العادية مستحيلة بدونه، بل المتقرر أنه سببٌ من أسباب الإنجاز المرموق، والنجاح الذي يُغبطُ عليه صاحبه، ومن لا يُحدِّدُ هدفه ثم يعمل لأجله قد تمشي أموره لكن لا يصمد أمام مفاجآت الطوارئ، ومتى كان الهدف بعيد الأمد سنيَّ المرتبةِ متعلقاً بمعالي الأمور مرجواً إفضاؤه إلى المصالح العامة فهو دليلٌ على علوِّ همة صاحبه وثقوب نظره، والغالب أنه إذا تحقق تعدَّى نفعه، وأقرَّ عينَ المجتهد فيه، و(عند الصباح يحمد القومُ السُّرى).