بكتفين مرتخيين، خرج بائساً باحثاً عن قهوة تعدّل مزاجه المنزعج.. وأخيراً حطّ على مقهى ذا طابعٍ ثقافي، تملأ جدرانه صور للكتّاب والمثقفين، (هنا طه حسين مرتدياً نظارته السوداء وغارقاً بين الكتب، وهذا نجيب محفوظ واضعاً يده على عصاه، وهناك إدوارد ينظر بكثبٍ نحو الأسفل واضعاً كفه على فمه، وهنا ...) -عفواً، ماذا تشرب؟ -أريد قهوة تجلو الفؤاد، وترمِّم هذا الخراب الذي يقبع داخلي.. -؟؟ -(أقصد واحد قهوة سوداء).. أخرج دفتراً غلافه من جلد.. وراح محلّقاً على أنغام موسيقى تحمل روح المشرق والمغرب معاً، ذات إيحاءات أندلسيَّة صوفيَّة.. وكتب: أنا بالمناسبة لا أجيد سرد الحكايات لم أتعلَّم كثيرًا أن أتحدث بصوت مسموع. دائماً ما كانت أحاديثي حبيسة صدري، لا أحب الثرثرة، لكني مستمع جيد. لطالما آمنت أن الحديث الدائم والمتكرر، ينبئ بالكشف، وينذر بعاصفة شديدة من الوضوح، وهذا مما يتنافى مع قناعاتي! ولطالما كنت حذراً جداً، خوفاً من أن تكشف أوراقي، ولا أدري ما هذه الأوراق التي أخفيها حقاً! ألا ترون أنه من حقي جداً أن أحافظ على مسافة أمان، بيني وبين كل هؤلاء الناس..! المسألة ليست بسيطة جداً، وليست بهذه السهولة، إنها تحتاج إلى مران عالِ الدقة، وحركة فائقة السرعة للتعاطي مع مجريات هذه الحياة الكئيبة، ثمة جملة تقول: مقتل الرجل بين فكّيه! ماذا أقول؟ كيف أبدأ بركل هذه الحياة المزعجة من رأسي! أو من أيّها أبدأ؟ من أي جهة أرمم هذه العالم؟ وكيف أرتب هذه الفوضى التي اجتاحتني منذ أن ... أشعر أنني أختنق.. هواء هذه المدينة.. يضغط على رئتي الضعيفة..كيف يكون هواء المدينة التي أحبها بهذا التلوث؟ ما الذي حدث؟ ما الذي تغير؟ "ايه اللي جرى! واللي غيّرنا كده.. ايه ايه ياترى"؟! أشعرُ بانقباض في أضلعي، وكأنها تحاول أن تلتهم قلبي.. حسناً أيّها ال.. إنسان، فكّر معي قليلاً: ما الذي كان سيحدث لو تأخرتَ قليلاً؟ ماذا لو أنك صحوت بعد ساعة؟ ماذا لو أن مديرك الذي قام بطردك، تراجع! ماذا لو أن هاتفك تعطّل في ذلك اليوم ولم تستطع الرد على اتصال والدتك الحبيبة؟ ما الذي سيتغيَّر حينها؟ ماذا وماذا وماذا لو؟ تأكّد أن كل الذي يحدث الآن، كان ليحدث مع شخصٍ آخر، وآخر، وآخر... تتمتم قائلاً: لماذا طائر الحظ البائس ترك العالم كله وحطّ على كتفي تلك اللحظة؟ تشعر بدوار في قلبك؟ تودّ لو تتوسّد عتبة على قارعة الطريق، وتبكي..؟ ابكِ! لو وقفنا عند كل حدثٍ مؤلم في حياتنا، وخضنا دقائقه وتفاصيله في عقولنا، لما استمرّت هذه الحياة.. ولرأيت الناس متكدّسين في الشوارع يبيعون البؤس والأحزان بالمجان.. ارتشفَ آخر قطرة من قهوته السوداء، وافترَّ ثغره عن ابتسامة عميقة، وخرج ملوِّحاً بيده للعامل الفلبّيني الذي حلّقت فوق رأسه علامة تعجّب كبيرة...!