«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة الى بيجنغ وشنغهاي: غيوم تمطر حبراً صينياً
نشر في الحياة يوم 02 - 04 - 2009


(13 آذار/ مارس، الجمعة، 2009)
حوالى الساعة الثانية عشرة، ظهراً، وصلت الى بيجنغ، آتياً من باريس، كان ينتظرني في المطار، الدكتور شوي تشينغ قوه، الأستاذ في جامعة الدراسات الأجنبية في بيجنغ، والباحث في الأدب العربي، والمترجم الذي وضع شعري ضيفاً بين أحضان لغته الصينية. هذا المضيف الصيني الذي يُسمي نفسه باسم عربي هو بسام، رفيع الثقافة، يتكلم العربية بطلاقة، كمثل أي أستاذ متميز للأدب العربي، في أية جامعة عربية.
رافقني الى حيث سأقيم في «فندق الصداقة». واقترح عليّ ما قبلته فوراً: الراحة، والبقاء في الفندق، الى صبيحة الغد.
من المطار الى الفندق، واكبتنا على جانبي الطريق أشجار عارية إلا من أعشاش الطيور. مشهد أعاد الى ذاكرتي أشجار القرية التي ولدت فيها، وأعشاشها.
الفندق في الحي الغربي من بيجنغ، حي الجامعات والمدارس والتقنيات. الطقس مائل الى البرودة، تتنقل في خطوات ريحه قناديل منطفئة لأباطرة يبدون كأنهم لم يموتوا إلا في الكتب.
الفندق جميل كمثل كتاب قديم من الصور. زخارف وألوان أحسست كأنها تتهادى مع زخارف الأندلس وألوانها. إحساس لا أعرف كيف أفسّره.
تجلس معي الدقائق في مقهى الفندق كأنها خيول أضناها الترحل. خيول نسيت حتى الحمحمة.
تُحدق فيّ الفتاة - الدمية الجميلة، عاملة المقهى. أجلس على آخر كرسي في آخر زاوية أقرأ وأكتب وأشعر كلما نظرت اليها كأنها تقول في ذات نفسها: مجنون غريب آخر.
وردة في أصيص زجاجي صغير على الطاولة، تمد يدها اليّ ولا أراها. كان نظري يلاحق وردة غائبة في فضاء غائب. وكان المقهى قد بدأ يفرك حاجبيه، كمن يستيقظ باكراً ولا يزال في حاجة الى النوم.
أنتِ المرأة الغائبة/ هذه التي ترافقني، من أنتِ؟
أمامك ثمانون سنة - أنا. وانظري الى سكين التاريخ كيف تحززها وتنغرس فيها، هل تسمعين صدى ضرباتها؟ حاولي أن تخترقي تلك الغيمة التي تغطيها. حاولي أن تقرأي الخطوط التي رسمها نَرْد الأيام وهو يتدحرج عليها.
أمامك ثمانون سنة - أنا.
ماذا أقول؟ حلم يقظة ليس إلا نوعاً من النوم. عليّ، إذاً، أن استيقظ حقاً، -
أن أحقن كلماتي بنسغ التحولات لكي أحسن الكلام على الصين،
أن أصنع من ذلك المعبد الأرضي تيا نا مين مرآة تتمرأى فيها أسئلتي، وأن أصنع من الأسئلة مسرحاً تنعرض عليه شموس المعنى،
أن أتفحص برفقة صديقي الدكتور بسام، المعجم الذي كتبته الحياة، وأتفقد فيه الكلمات التي جفّت ضروعها، وتلك التي لم تنبت أثداؤها بعد.
وكان في لغتي ما يقول:
عميقاً، ينزل رعد التاريخ في جسد المادة.
أ - كرسي السماء
لا يسع حتى حصاة يدحرجها طفل يبكي.
ب - غيمة اللغة:
سرب من الأجنحة تمطر حبراً صينياً.
ميزان المعنى:
كفّة للكلام، وكفّة للسؤال.
ج - نجمة تنزل وحيدة على سلم الفضاء
أظنها تحمل بريداً أنتظره.
د - لا تموت من الشيخوخة،
تموت مللاً من أبدية الطفولة.
ه - «لا شيء يموت»،
يقول لك الموت نفسه.
الموت هو الطين
الذي تُجبل منه أعظم الأكاذيب.
- 2 -
(14 مارس، السبت)
قلت في ذات نفسي، متذكراً زيارتي الأولى لبيجنغ، سنة 1980، خيّر أن أبدأ زيارتي الثانية برؤية سوق شعبية. أرى الناس في حياتهم العملية اليومية، وأرى تنويعات هذه الحياة.
وقلت ذلك لزينب.
ابتسمت وقالت: حسناً.
صعدنا في سيارتها الجميلة آنفينيتي، وكانت ترافقها تلميذتها أميرة، لرؤية سوق شعبية نموذجية.
تحمل زينب شهادة الدكتوراه في الأدب العربي، وهي أستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية. مسلمة، متزوجة من طبيب صيني، أخصائي كبير في أمراض القلب، واسع الشهرة. وهذا الاسم اختيار منها، اسم مستعار. اسمها الحقيقي الصيني هو «شياو كين وو».
حقاً،
مدخل مطعم بسيط. مخزن صغير لبيع منسوجات حريرية وقطنية. مفرق شارع تتزاحم فيه، بنظام ودقة، سيارات من كل نوع. سقف قرميدي، عمارة حديثة زجاجية. أبراج. أشجار لا أعرف أسماءها. فتيات تحاول كل منهن أن تجذبك، بوصفك أجنبياً، الى دخول حانوتها. لؤلؤة وجاد وأحجار تكاد أن تكون كريمة. تماثيل: تينين هنا، عنقاء هناك...،
حقاً، هذه كلها يمكن أن تكون فاتحة لكتاب في الدهشة، أو مقدمة لدراسة الفرق بين ما ينتهي وما لا نهاية له.
قلت لزينب ضاحكاً: تتعب قدماي، عادة، عندما أسير محاذياً للسماء. ولا تتعبان أبداً عندما أسير بين البشر الأكثر التصاقاً بالأرض.
قلت ذلك، جواباً عن سؤالها: هل تعبت؟ وكانت قد سألتني وأجبتها: صحيح كما تقولين. لم يقدّر أي شيء للانسان. الانسان هو الذي يكتب كل شيء لكل شيء. أولاً، والى آخر اللغة.
ولا أفاجأ، مثلك، أن تتجيش الطحالب ضد الموج. أو أن يتبلل قميص الحرية بماء التباريح. دائماً، دائماً.
وانظري - تلك المدارات التي أجيء منها. يؤكل فيها الماضي مهترئاً. ويؤكل المستقبل نيئاً. وكل مدينة كبش يذبح. وكل ذابح يقول عن نفسه إنه ملاك.
لا أحد في مكانه غير عُثّة القتل.
وكل نبع يجيء ويذهب في مائه ضفدع بشع، وربما خمسة أو عشرة.
هُبّي يا رياح كونفوشيوس، وأنتِ كذلك هُبي أيتها الروائح البوذية والطاوية. وقولي لكل محسوس أن يفتح لنا ذراعيه.
بيت زينب يفتح صدره للغداء. بيت جميل غني. استقبلنا أبواها وطفلها. لا أعرف أسماءهم. قلت: «أحلم بثلاثة أبناء. لكن، لا يحق لزوجي أن ينجب إلا واحداً. وفقاً للقانون». وقالت: «ذهب أبوايَ، في السنة الماضية الى الحج!. وهما سعيدان بذلك، جداً».
- إذاً، قاما برجم الشيطان.
«نعم»، أجابت.
كانت مائدة الغداء باذخة.
وكان أبواها كمثل وردتين: الساق في بيجنغ، والبرعم في مكة.
اليوم نفسه، مساءً، في منزل الصديق الدكتور بسام، مع زملائه في الجامعة. جميعاً، اتخذوا اسماء عربية، تحبباً وتيمناً:
صاعد (تشونغ جي كون)، رئيس جمعية بحوث الأدب العربي في الصين.
جلال (إي هونغ)، باحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وخبير في دراسة جبران خليل جبران.
دُرية (لي تشين)، باحثة في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وخبيرة في دراسة نجيب محفوظ، والأدب الصوفي.
ليلى (تشي مين مين)، أستاذة في جامعة الدراسات الأجنبية، ومتخصصة في دراسة الأدب العربي القديم.
زاخرة (تشانغ هونغ يي)، أستاذة في المعهد الثاني للغات الأجنبية في بيجنغ، ومتخصصة في دراسة الشعر العربي الحديث.
تشي بوهاو، باحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وخبير في دراسة الأدب العربي القديم.
إضافة الى عمّار، وأمل، وهادية، وداود، وسعاد، وشريف، وزينب وزوجها.
بعضهم يعرفون أن يرونا أعمق مما يرى بعضنا. ويبدو أنهم يواصلون السير معنا، بحماسة، لكن بيقظة.
أ - تعبر الساعات كمثل قطيع غزلان
يرعى أعشاباً سرية في غابة الوقت.
ب - الوقت هو كذلك يغنّي أو يبكي، لا بشفتيه وحدهما،
بل بشرايينه كلها.
ج - هل الحياة هي، حقاً، الكتاب؟
هل الكتاب هو، حقاً، الحياة؟
هل الحياة شيء والكتاب شيء آخر،
وشتان ما بينهما؟
أجب، أجب يا كونفوشيوس.
د - لا تتوقف، أيها الشاعر،
عن ابتكار المغامرة،
خصوصاً تلك التي تزلزل الطريق والأثر.
ه - أفق الانسان
أن يتحول هو نفسه، دائماً،
الى مفاجأة لنفسه داخل نفسه.
- 3 -
(15 مارس، الاحد)
القصر الصيفي. كنت رأيته في زيارتي الأولى، 1980. كما هو، لم يتغير شيء. قديم راسخ. البحيرة التي أمرت بصنعها تلك الأمبراطورة الحالمة، تحلم هي كذلك في إخاء كامل مع الوقت. زوار، معظمهم صينيون، يسوحون حولها، أو يسيحون فيها كأنهم يتموجون، كلّ في ماء أحلامه.
الغداء في مطعم الفندق. وحدي.
المطعم ألوان برتقال وقرميد. الفتيات العاملات ألوان سواد وحمرة أوركسترا ألوان وحركات وأصوات لطف إنساني غامر يقود هذه الأوركسترا، لطف نسائي.
إن كنت أشعر أن إقامتي في بيجنغ غبطة فلأن أيامي فيها تمر معطرة بجذر الأنوثة، ولا أعني المرأة وحدها، بل الطبيعة أيضاً هل آسف لأن طعماً آخر يجيء من جذر آخر هو الآلة يهيمن على بعض الشوارع والمجتمعات التجارية آلة إله آخر
أوه! علينا أن نحذر من وقت يجيء لا يكون فيه أي متسع إلا لآلة أو إله.
أصعد الى غرفتي تأخذني بين ذراعيها كما لو أنها تأخذ طفلاً مرهقاً تأخذني أحلام اليقظة
نارُكِ، أيتها الغالية البعيدة، يجب أن تتحول الى نور.
نورك، أيتها الغالية، يجب أن يتحول الى نار.
قولي، كيف أمكنك أن تحتضني بذراعيك المؤتلفتين تلك العوالم المختلفة؟ هل تشعرين انك تخسرين، وما هذه الخسارة؟ هل تشعرين أنك تربحين وما هذا الربح؟
«للأفق غيم لا يخاف إلا من لازورده»، تخيّلت أنها قالت.
«للاّزورد أفق لا يخاف إلا من غيمه»، تخيّلت انها تقول.
تأخذني أحلام اليقظة –
وها هي أفكاري تستيقظ. تفتح حدائقها لزوار لم ترهم من قبل. ستنامُ فيها هذه الليلة أشباح وأطياف من عصرٍ آخر. ألمح هؤلاء الزوار. أو كأنني ألمحهم يتوافدون في قوارب تمخر ضباب العالم، وأرى نوارس ترفرف حولهم آتية من ضفافٍ لا أزال آمل في ان تسمح لمرساتي أن تصل إليها.
تأخذني أحلام اليقظة –
مهلاً، أيها الرفيق كونفوشيوس،
لماذا تذكّرني بهاملت، هذه اللحظة؟
حقاً، لا بد من ان ننقب جدران السّماء.
تأخذني أحلام اليقظة-
هل سيكون العصر المقبلُ قيثاراً صينياً؟
ألن تخافي ايتها الموسيقى من برودة الكون؟
العصر؟ خيال عابر في عيني تلك البحيرة – إياها،
والأرضُ تدورُ، لكن على سُرّة المعنى.
كلا، لا أقدر أن أنام
للهواجس شفرة تحزّ أعضائي.
*
جامعة الدراسات الأجنبية. قاعة مليئة
لقاء للكلام على الشعر. لقاء نقش النهار وجهه فيه. تحدث الجميع بحب كأنه الشعر. كانت كل مستمعة تفتح صدرها لما تُصغي إليه كأنها تفتحه لطفلها البكر. كان كلّ مستمع يودّ ان يقيم في موسيقى اللغة العربية (أربع وعشرون جامعة في الصين تدرّس فيها اللغة العربية الآن).
أنظرُ الى الوجوه في القاعة وأدقّق واستقرئ يبدو كل وجه كأن قنديلاً يشعّ في كل ثنيّة من تقاطيعه
*
ليلاً – اليوم نفسه، لقاء مع الناشر، في عشاء تكريمي
شعراء وصحافيون أكمامٌ نسائية تخيطُ بعطرها ولُطفها فضاء المائدة
كل سرير نَرْدٌ في يد الحب
كان يانغ ليان، الشاعر، قد ذهب الى حظّه وكانت كل امرأة تتهيّأ لكي تذهب الى سرير حبها.
أ- الجسم هو اولاً، العظم.
الجسدُ هو، أولاً، الحبّ.
والبقية لفراغٍ اسمه السماء.
ب- الحقيقة هي ان تُعاش.
ج- ثوبٌ تنّينٌ للامبراطور.
ثوب عنقاء للامبراطورة.
د- الغرب؟ «أهو طعمٌ مسمومٌ»؟ يسألني الهواء.
ه- عطرٌ يتقطّر حُرّاً
من زهورٍ عائمةٍ في بحيرات الصداقة.
- 4 -
(16 آذار - الاثنين)
غداء تقيمه رئاسة الجامعة ممثّلةً بنائبة الرئيس السيدة يانغ يان هونغ. غداء جامعي. تحدثنا كما لو أننا نخاف من هاري بوتر، ثقافيّاً، كما نخاف حربيّاً، من الصواريخ والقنابل. داء النمزجة والتماثل. رعبٌ أن يكون المراهق في بيجنغ كمثل المراهق في لندن.
وتحدثنا، كما لو أننا نقول: في الفلسفة الطاوية يبدو الوجود صديقاً قريباً للإنسان كأنه نوعٌ من الجواب. أما في الفلسفة الغربية فيبدو أن الوجود «بعيدٌ»، أعني أنه سُؤال.
*
بعد الغداء لقاء مع بضعة صحافيين في مقهى على «بحيرة المعابد العشرة». اسئلة تؤكد أنهم ليسوا على معرفةٍ بالشعر العربي وحده، بل أيضاً بالأحوال السياسية والثقافية العربية. مقاهٍ ومطاعم عديدة على البحيرة. إضافة الى حوانيت صغيرة، تُعنى بإرضاء أو بتلبية فضول الأجانب الذين يزورون بيجنغ للسياحة. وهم يزدادون كثرةً يوماً بعد يوم.
الحيّ كلّه قديمٌ. تشعر، فيما تتجوّل فيه، أن لدى ساكنيه شغفاً بالحياة وبالآخر، يجعل من الحياة اليوميّة هيكلاً في الهواء الطَّلق. بيوتٌ وأزِقةٌ يسيلُ منها عرقُ الذاكرة، وينبض فيها قلبُ التاريخ القديم.
تشعر هنا كأن الموتى لا يموتون. كأنهم يتوهجون في الشمس التي تسطع، والرّيح التي تهب، والماء الذي يجري. وتستطيعُ، بنشوةٍ ما، أن تشاهدَ القديم في جُبةِ الحاضر الحيّ.
وما أندرَ النوافذ المغلقة على آفاق ما مضى، أو لنقل: ما أكثر النوافذ المفتوحةَ على ما يأتي.
ولئن كان الماضي هنا ظِلاًّ يرتسم على قرارٍ ليس إلا أيدياً تعمل، وعقولاً تفكّر وتخطّط، فإنّك تشعر أن فيه أشباحاً ظلالاً وأطيافاً تطوف حولك لا لكي تشدّك الى منازلها الماضية، بل على العكس لكي تُوشوِشك أنها مأخوذةٌ بأيامكَ! أنت، وأنها ترغبُ في أن تعيش معكَ، وتشاركك الحياة والفكر والعلم. كأن الماضيَ نفسه يخرج من ذاته، شوقاً الى أن يُصبحَ حاضِراً.
وليس صخب الشوارع والأزقة إلا هدير حياةٍ تتموَّج آتيةً من ينابيع لا تعرف أن تميّزَ فيها بين مائها القديم ومائها الجديد. رجالٌُ ونساءٌ، أطفالٌ وشيوخٌ يخرجون من هذه الينابيع، ينظرون اليك، ويبتسمون لك، وتشعرُ كأنهم يحبّون أن يرافقوك في سيركَ.
كأنّما الحدودُ بين العالم الغائبِ والعالم الحاضر، تتحوّل الى ستائرَ رقيقة، حكيمة، وشفّافة.
*
عشاء يقيمه الشعراء أصدقاء الشاعر الصديق (المقيم في لندن) يانغ ليان، والحاضر في بيجنغ:
هان زيوكونغ، شين واومنغ، هيسها وجون، شن شانغ فنغ، نانغ كي، زاوسي، مانومو، تانغ كسيادو، زين ييلنغ، كسوشينفاو.
شعرتُ في هذا العشاء - الشّعر أن للجنين الذي يحمله الغَجر، للطفولة التي ينتظرها المساء، أعصاباً تتكوّن في أحشائي، يُغريني هنا خصوصاً عصبُ الرياضيات راسماً متاهات اللّذة. يُغريني عصبُ الضربات السحرية التي تنزل من عصا ذلك النبيذ الأصفر، وتلك التي كانت يدُ الشعر تُلوّح بها في فضاء الجسد.
كان الفضاء تلك العشيّة يلبس رماده الشتائيّ الأخير. أحسستُ، فيما أودّع الشعراء أن بيجنغ تنشطر في مُخيّلتي: شطراً للحبّ، وشطراً للشعر.
*
بعد هذا العشاء، نتابع السهر - يانغ ليان والدكتور بسام والدكتور عمّار وأنا، في بيت الخطّاط الرسّام الكبير المشهور زنغ لاي ده. البيت كله، على اتّساعه الغني المُترف، الأنيق، حُوّل الى ما يشبه المرسمَ - المتحف، لأعماله، ولأعمالٍ - تماثيل صينية قديمة، نادرة ومدهشة بقوّتها وجمالها. كأن بيته لوحة واحدة متنوعة. وكأن الواقع فيه هو نفسه الأبيض - الأسود، أو الأسود - الأبيض: ذلك هو حبره، خطّاً ولوحةً.
تنظر الى ما يبدعه زنغ دي ده، تتأمَّلُ فيه، فترى أن الطبيعة تتحول الى ما يُشبه أبجديّةً تكوينيّة، تشعّ منها مخطوطاتٌ وكتبٌ، أحلامٌ وآفاق. تواريخ وأمكنة. وتشعر كأنّك تقرأ وترى
جبلاً ضخماً يطير بأجنحة فراشة،
فراشةً تحطّ على برعمٍ اسمه الفضاء،
شمساً تقدّم لك حبّها، لكن تغريكَ أوّلاً
قراءةُ ما كتبته لك،
أطيافاً تسيرُ ملقيةً أذرعها على كتفِ الضوء،
لهبَ حاجةٍ في أعماقكَ
للترحّل طويلاً طويلاً في ذرات الحِبر.
والزّمن في هذه الأبجدية خفيف الخطوات. يدخل من أبوابٍ بلون الرماد، وعلى رأسه تاجٌ ينتمي الى وحدة الفصول. تنبعث من هذا التّاج أشعةٌ - خيوطٌ ينسجُها الحبرُ، ويتدثّر بها الورَق.
أ - المُحتملُ يحملُ الواقع بين ذراعيه،
والهواء يتأبّط المادة.
ب - أن نتكلم هو أن نسكن الكلمة،
لا أن نكتفي بلفظها.
الكلامُ مسألةٌ في شجاعة المجتمع
لا في شجاعة اللغة
ج - قالت:
جسدٌ كلّما التقيتهُ
أُعالج شهواتي بتخيّل جسدٍ آخر.
تلك الليّلة،
نام الشاعر في أحضان رائحتها.
د - ليس السّفر طريقةً في المعرفة،
السَفرُ طريقةٌ في الحبّ.
ه - بيجنغ -
قلبها واقفٌ على سرَّة الشمس.
- 5 -
(17 آذار، الثلثاء)
أو يانغ جيانغ هه، تانغ شياو دو، وانغ جيان زو، لان لان (شاعرة) شي تشوان، شو تساي، موهونغ يان (شاعرة) -
شعراءُ يفتحون اللغة الصينية على الأدب العالمي (الروسيّ، الانكليزي، الفرنسيّ، الفارسيّ)، ويسافرون في أقاصيه. نتعارف، نتحاور، ونسافرُ معاً، وليس السفر هنا طريقةً في المعرفة بقدر ما هو طريقة في الحب. هكذا يستطيع كلٌ منا، عندما ينظر الى النجوم في سماء البلاد التي يسافر اليها، أن يرى ما بين أفخاذهنّ، وأن يلامسَ أثداءهنّ.
*
798/ كان هذا الرقم اسماً لمصنع عسكريّ. اليوم، تحوّل الى مجمّع فنّي. قمت بجولةٍ سريعةٍ في عددٍ من قاعات العرض، برفقة الصديق الدكتور بسام، دون برنامج، دون خطة، عفويّاً.
فُوجئت بحدثين كبيرين:
معرض لمنى حاطوم، الفنانة اللبنانية - الفلسطينية، ومعرض للفنان الصيني تشيو جيي جيا (Qui zhijie) ينظم المسرحيين «مركز أولينز للفن المعاصر UCCA» الاول بعنوان «Messures of Entanglement» والثاني بعنوان «Breoking Through the ice» (كسر الجليد).
وكنت رأيت بين ما رأيته كيف ترسم الاساطير الصينية الشعبية، كيف يرسم بوذا في شكل امرأة، منقذاً للعالم، (سو يونغ Sho Yong)، ورأيت كيف يرسم الإنسان واقفاً، بعينه الصغيرة، مندهشاً، أمام ابتكارات العالم وعجائبها (سوجي Shujie)، وكيف يسيطر الترميزُ، وهاجسُ تصوير «الأفكار»، و «تمثيلها»، في كل ما رأيته، وكيف تجيء «التقنية اللونية - الفنيّة»، في مرحلة ثانوية، بوصفها مجرد أداة للتعبير عن «الفكرة».
أما معرض «كسر الجليد»، فهو أولاً تجهيزٌ ضخمٌ يمثل الحياة اليومّية في الجنوب الصّيني، بأدواتها وأشيائِها اليوميّة ذاتها. وثانياً ما سمّاه الفنان «المدينة الفاشلة» - أربع سلاحف، أربعة جدران، أربعة أبواب، لا سقف، نبات يكسو أعالي الجدران، تعبيراً عن الفشل في أوجه، وثالثاً. ما سمّاه «عاصفة في الداخل»، ورابعاً ما سمّاه «زينون الإيلي»، الذي يظلّ واقِفاً، فيما يتحرّك العالم دون توقف. وأخيراً ما سماه: «استراتيجية الدولة»:
تجهيزٌ بارعٌ، شديدُ الإيحاء، عظيمُ الإتقان، أمّا منى حاطوم، وقد رأيت سابقاً بعضاً ممّا تعرضه هنا، فهي فنّانةٌ خلاقةٌ وفريدةٌ تصنع أراغنَ للمخيّلة، فيما تُواخي بين الحاسة المباشرة والحدسِ البعيد، العميق، بين فيزياء العناصر وكيمياء المشاعر.
*
798/ مدينة للفن تحتضنُ الطاقة الفنية المبدعة، لا في الصين وحدها، بل في العالم كلّه. مدنية الانفتاح، والحركة، ولهفة البحث، خروجاً من الذهنية الدوغمائية وثقافتها، ومن كلّ ما يطمسُ الرغبةَ وأحلامها.
*
(19 آذار، الخميس)
بين زيارة «المعبد السماويّ» تلبيةً لشهوة العين، وزيارة موقع سينا (SINA) على الانتيرنيت، تلبيةً لدعوته لإجراء حديثٍ مُصورٍ معي، سافرتُ بعيداً في مخيّلتي-
بلىَ، بين الحجر والحجر في جدران التاريخ ينبتُ عشبٌ لا يوصف ولا يُسمّى. وعبثاً تُحاول أن تمحوه المعادنُ الثقيلة التي تتدحرجُ فوقه. عشبٌ برهانٌ على أنّ الحياة لا تُغلبُ. أنها هي التي تنتصرُ أخيراً.
في العالم كلّه، حيث أُتيح لي أن أتجوّل، تجوّلتُ في بستانٍ حديد واصطدمتُ بأجسامٍ برونزيّة، ورأيت أشجاراً تنحني فيما كانت أغصانها تُحوَّلُ الى منجنيقاتٍ لِرَجم الثمار التي تنضج في حقول المخيّلة.
مهلاً يا أهل تلك المعادن، وأُصغوا الى الأسئلة التي يطرحها عليكم تلاميذُ العشب.
أصغوا أنتم، أيّها الأصدقاء العاملون في الصحافة، بريد العالم الممكن المقبل - ووبينغ، كواي ليه هاو، ليو تشي بونغ، مويه، جانغ لوسي، وانغ جولي، شي جيان فونغ، تيان تشي لينغ، شيه تشي سان، كانغ كاي، ليوبو.
أصغوا، لكي تستيقظ لغاتُنا من سُباتها لكي تزدادَ قرباً الى الشعر وتتناول من يديه خبز حضورها الخالق وأعرف أنه حضورٌ يهدّده داءُ الذّاكرة والعِرق حيث ترقص القبائلُ وتُصفّق السلالات. حيث يجلس الزمان بائساً أعرجَ لاهِثاً على عتبات الأمكنة.
وأعرف أن حمماً تتطايَرُ وتختبئ في أحشاء ظُلماتهِ يقذفها سِرّاً جوعُ التّاريخ. ولن تعرف كيف تتخلّص منها تلك الرمالُ التي تتجمّع وتتشكل في عساكرّ ونجومٍ وخرائط،
هنا، عندنا، خصوصاً، على البحر المتوسط - الأقصى/ وهل يمكن أن نُلغيَ الجمعة من أيام الأسبوع، ونضعَ مكانه يوماً آخر باسمٍ آخر؟ وهل يمكن أن نلغي السبت أو الأحد؟ دون ذلك، ربما ستظل عربة الوقت تبحث عبثاً عن دولابٍ صالح لعبور المسافات نحو المجهول.
أ - لا تقل: صورتي. قُل: هو.
أنت كلّ ما ليس على صورتك
ب - التبسي عليَّ، يا نفسي.
ج - «في قمر الصين شقٌ إيروسي»،
يقول فلكيٌّ عربيّ.
الشّاعر أولُ من صدق هذا القول.
د - إتَّكئ على الهاوية،
لكي تعرف كيف تتسلّق الضّوء.
ه - يا دليليَ التّائه،
ليس في جُبّتك إلاّ أنا.
- 6 -
(20 - 21 آذار، شانغهاي)
شانغهاي، يبدأ الحفل لا ينتهي.
الأشياء كلها في ثيابٍ يُبللها مسك خاص تحمله قواريرُ غامضة. ثيابٌ تحت آباطِها واقعٌ يشك في أنه المخيّلة، وفي أكمامها مخيلةٌ يشكّ في أنها الواقع.
يبدأ حفلُ لا ينتهي. وكل محتملٍ ضيف.
والساعات تنتشر قباباً قِباباً تراقُ تحتها خمرةُ الغيب. كلا، ليست النساء ظلماتٍ، وليس الرجالُ بروقاً: أشجارٌ واحدةٌ بنسغٍ واحدٍ لشهوةٍ واحدة: الحياة، الحب، الشعر، المال، غالباً، والسياسةُ، أحياناً. وكل شيءٍ شِراع.
المرساةُ قويةٌ راسخة، غير أن الحبال تتأرجحُ يمنةً ويسرةً في عباءةٍ فضفاضة. حيتانٌ، أسماكُ قرشٍ، سلاحفُ، سردينٌ - عائلةٌ واحدة، في رائحةٍ بحرٍ مالحةٍ، في ماءٍ حُلوٍ، أطولِ نهرٍ في الصين، خوانغ بو.
دواليبُ الورق، الانترنيت، الكومبيوتر، الشاشات من كل نوع أوركسترا واحدة. ولا خيار - عليك أن تُصغي الى هذه الموسيقى. إذاً، أَعطِ أذنيكَ الى صدفةٍ واستمع الى ضجيج العالم.
أمّا أنا فسوف أسهرُ هذه العشيّة على قبر المعنى. أسهر مع ناشر كتابي وانغ لي شي، ومترجمه الدكتور بسام، ومع شعراء شانغهاي - مومو، يويو، يه رين، تشي قوه، يه تشينغ، يوان شتون (جاء خصيّصاً من مقاطعة تسه جانغ)، والشاعرة الجميلة الشابّة مي هوالو. نسهرُ، وكلٌ مِنّا يسأل جسده: أأنت موجةٌ؟ و«لماذا النومُ»؟ يقول السهر. النومُ يُشبه عينَ الوطواطِ، وعنُقَ القبر.
*
انّها شانغهاي، موسيقى هندساتٍ وأضواء، تلعبها أوركسترا الأبراج، والعصرُ يدندن اللازمة.
وكنتُ عرفتها في نهايات القرن الماضي، 1980 تحديداً. وكنتُ قرأت في وجهها: كيف يُعادُ ابتكار العالم؟ ولم تكن الحريّةُ حرةً بعد، ولم يكن للأفُقِ شهقةُ المحيطات، وكانت اللغة لا تزال في بوحِها الخجولِ، وشِبه الخفيّ.
إنها شنغهاي،
الرأسمالُ في كل مكانٍ، واضِعاً على رأسهِ قُبعة الإخفاء. وتلك هي بيوتُها القرميدية وأحياؤها القديمة تتحول الى ما يشبه حدائق تسوّرها الأبراج والعمارات. رأيتُ في هذه الحدائقِ نجوماً تلبس قُبعاتٍ من السيلوفان، وتجلس في دوائرَ تُحيط بساحة الشعب. وكان قصبُ السكر يتكئ على جدران الحوانيت الصغيرة كمثل جنودٍ أرهقهم السَّير، في حُزنٍ أسود كأنه يرشح من الأيدي التي حملت هذا القصبَ من حقوله البعيدة.
صخبٌ في أحشائي -
من يقدر، من يعرف أن يقول له: توقف!
كلا، لا تُغريني صناعةُ الزَّبد، هذه التي تبدو كأنها تكادُ أن ترسمَ صورةَ العصر. وما هذه الوردة التي تمنح جسدّها الى سريرٍ بلاستيكيّ؟
لكن، هوذا أعبرُ أمامَ زهرة لوتسٍ، وأُقنعُ عينيّ:
جميلٌ حقّاً أن يظهرَ بوذا، اينما اتّجهتَ،
في صورة امرأة!
*
أ - عصرٌ
كمثلِ ورقٍ يتطايرُ في إِعصارِ المعنى.
ب - لنبع المعنى
عينان لا تكفّان عن البُكاء.
ج - الآلةُ، الآنَ،
نصفُ رجلٍ وشِبه امرأة.
د - الغيمةُ معطفٌ ممزَّق،
ذلكَ ما يؤكده جسم الفضاء.
- 7 -
في الغسقِ، على نهر خوانغ بو، حيث يتحوّل الإسمنت الى شريط كأنّه الحريرُ يصل الإسفلتَ بالسحاب، وسُرّة الشرق بشفتي الغرب،
كان برج جين مو يقرأ شعره على الفضاء، في ضبابٍ يبدو كمثل حجابٍ شفافٍ ينسدلَ على رؤوس العمارات. وكان الفضاءَ يتربّع، يداً لكتفي التيبت، ويداً لخاصرة نيويورك.
نساءٌ يترقرقن على كورنيش النهر. يمسكن الوقت بأهدابهن ويقتنصن طيور المسافات.
وتأمّلت في يرقاتِ الحرير الكونيّ كيف تخرجُ من بُيوضِها وكيف تتمدّد حول آلةٍ يحرّكها إلهٌ لا من الواقع لا من الأسطورة، من غيبٍ آخر في جُرحٍ تكوينيّ آخر.
وكان في الأفق ما يتمتم: انحناءُ ظهرك، أيها الإنسانُ، هاويةٌ أخرى تشقّ العالم.
كان يمكن في هذه اللحظة أن أقول كلمةً واحدةً: سلاماً، قبل أن أعود الى الفندق، بارك أوتيل في ساحة الشعب، وأدفن رأسي في سرير وجعٍ كأنه العربُ، أو كأنّه هذا الكونُ الطفل الذي يشهق ويكاد أن يختنق.
ولا رسالة،
غير أنني حزنت قليلاً لأن الأمنَ لم يسمح، وِفقاً للقانون، أن تصعد معي الى الطائرة زجاجة الحبر الصيني.
أعتذر، إذاً، الى جميع العناصر التي تتمازجُ في هذا الحبر وتشارك في تكوين هويّته السائلة السوداء البهيّة.
ولا رسالة،
لكن، لا بُدّ من أن تكون للحياة أجنحة،
وأن تخفق هذه الأجنحة في صدر اللّغة.
لكن، وداعاً شنغهاي،
لو لم أزرك ثانيةً،
لخفتُ أن يقال عنّي:
جاء الى العالم وذهبَ ولم ير شيئاً.
سافرَ الورقُ في حبر الأسئلة،
سافرَ الحِبرُ في الصوت،
أين ستسافر أيها الصَّوت؟
* بدعوةٍ من جامعة الدراسات الأجنبية في الصين، لمناسبة صدور مختارات من شعره باللغة الصينية، أمضى الشاعر أدونيس عشرة أيام في بيجنغ وشنغهاي.
والنص يضم بعض انطباعاته وخواطره عن هذه الزيارة، وننشر الأسبوع المقبل بعض الأصداء التي أثارتها هذه المختارات في وسائل الإعلام ولدى الشعراء والنقاد في الصين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.