لا نملك في الصباحات المشبعة بالطَلّ سوى التّجوُل بعيون صامتة فوق الشُعب المُطوقة بالسراب والعطش، نتأمل البلل اللّزج ونُرسل قلوبنا لتبتهل إلى الله أن يصدح صوت المطر ويعزف على ابتسامات البشر فرحاً سمحاً، وفرجاً يقرّب القلوب من منطق الألفة والرحمة والود. مطر.. يهزّ الجدران الفاصلة المثبتة بالملصقات! فيذيِب الغضب ويطفئ «ثورة الشك». مطر.. لا يؤنبنا بل يفاجئنا ويطيل مكوثه معنا.. يعانق عنادنا وينفذ إلى نهاراتنا الطويلة. مطر.. يصمم خطواتنا واستسلامنا، ولا يملي علينا أفعالنا. مطر.. يأتينا بوجه نرى فيه الراحة، ويتأملنا بفكر مشغول بعلامات الانبهار في قالب صوفي. مطر.. لا يسحَق وجوهنا حين نخلد إلى النوم، ولا ينقل أسوأ الأخبار، ولا يتحجر في عيون أمهاتنا. مطر.. ينفي الضَّجَر إلى خارج نطاق الكوكب، ثم يعاود الالتفات إلى شؤونه؛ فيتأقلم مع الواقع ويُذعن له. مطر.. يصوغ عباراتنا نشيداً استثنائياً نقفز به على صفحات الكتابة الكافية. مطر.. ينزل علينا كنصٍ لائقٍ يحاصرنا بصورة المنفردة. مطر.. ينصفنا حين مرّ بنا، ويحتّم استيقاظنا لأهمية قصوى. مطر.. يجدد أحلامنا، ويتشبث بأجفاننا فرحاً ليبقى إلى الأبد. مطر.. يكون بحوزتنا يبسط لنا يديه، ويتطلّع لأيامنا المتبرمة، فيضفي عليها من بركة صوته الكوني. مطر.. لا نختبئ منه، ولا نُخفي أسرارنا عن عيونه، فلا ينقر على أخطائنا، ولا يسترجع وميضه، ولا يشطب فُرَصنا. مطر.. يلحق بحقيقتنا في اللحظة المناسبة.. يحبها.. يعبر بها إلى وتر نهائي في نوتة أخيرة. مطر.. بلا أحجية.. ولا حذر.. ولا نفاد صبر. مطر.. يُطل بلا إعياء ولا رؤية ضبابية، ولا أصابع هلامية متراخية؛ يلمس الوجع المُتمكن فينا، ثم يتهاطل رذاذاً هادئاً يترنم بالوجود، ويهتف في الحقول، ويفتح صدره مآذن تدخلها الظلال الباهرة فيسطع فيها السلام الجميل. مطر.. ينتظرنا عند حدود القمر واقفاً على حد العمر؛ يغمرنا باليقين، ويحاول أن يرمي عن كاهلنا ما يثقلنا من فتات. مطر.. لا يتردد.. يزج بنفسه في دوامة قدرنا، ويكتفي أن يرتطم بالأرض ليضيء لنا الأمكنة. مطر.. نتذكره.. ننتظره.. نبتهل إلى الله من أجله، وحينما ينهمر عجباً.. نتحاشاه.