كانت صديقتي تأخذ بيدي ونحن نشق الصفوف بين جمهرة الرجال في السوق الشعبي الطويل، ولم تكن هناك امرأة غيرنا دون غطاء رأس وعباءة. شعرت هي بالخطر، وكنت أشد رعبا منها، فكان المسير أقرب الى سباق ماراثون بدا في تلك اللحظة وكأنه دون نهاية، هي تسرع وأنا أتبعها. من هو المبادر كي تنطلق الصرخات؟ كنت أرى في الوجوه ما يعزز هذا الرعب، ونحن نكاد نلامس أجساد الرجال في ممر ضيق لا يسع عبوراً مريحاً. تخيلت سلاحاً سيتوجه الى رأسي، لينقلني إلى حارة قريبة، ربما لأن شكلي يوحي بغنيمة من قدم من الخارج، فيزداد وجيب قلبي وارتجاف يدي وتعرقها. عندما ظهر شارع الرشيد المقفل من الجانبين، نسينا الشمس الحارقة والغبار، وكأن الخطر بدا أقل مما تخيلنا، في حين كان الشارع نفسه المهجور بالأزبال والكونكريت والمستنقعات والبنايات الآيلة الى السقوط، أشبه بمشهد من فيلم رعب عن نهاية العالم. انشغلت بمرآى العمارة البغدادية القديمة، في حديث عن جمالها الذي يمكن أن يستعاد بمبالغ لا تساوي الكثير. كنت أحاول طرد الخوف بالذكريات. هذا مكاني، وذلك العمود المرقّش بالرطوبة والرصاص خاصتي التي حاولت مرة ان أمد يدي إليه في الحلم، فندهتني يقظة النهار. تلك الشرفة الصغيرة وهذه الأفاريز والمقرنصات. الشبابيك الشرقية، والغبار الذي يخفي جمالها، ولكنه لا يقوى على إمحائه. هل حقا لي ذكريات هنا تحت الظلال المتساقطة، وذاك التعلل بالأوهام ؟ حاولت ان أتنفس على إيقاع تلك اللحظة المسرنمة في حياة هذا الشارع، أن أوقفها مثل فيلم عن السهاد حين يتحول الصمت همهمات تطرق الرأس. حاولت الاهتداء إلى طعم حياة مغادرة أو قادمة، أن أمسك نفسي المنشطرة على نفسها، بين أن تكون هنا أو هناك. الغفلة عن فكرة المغادرة تمنع النظر إلى المكان كما لو انه قابل للمعاينة. أنت في موقعك تنظر ولا ترى، كأنك كنت تحتاج إلى حرب أو زلزال أو هجرة، لتزن في ميزان عقلك ما تغافلت عنه وما أسقطته عادات الحياة وسهوها. علمتنا الإقامة في الخارج الانتباه إلى المطارح الأخرى. نحن نؤدي ضريبة إهمالنا، ضريبة غفلتنا عما تركناه خلفنا، تناسينا أن نودع ما كنا نجهل في الأصل ما تعني الإقامة في الأوطان. الشرطة التي حرفتنا عن مسيرتنا عبر شارع النهر، بعد أن أقامت سرادق، ربما لم يخطر ببالها مشكلة عبور سافرتين في سوق شعبي، ولكنها غدت مفارقة أرشدتني إلى ما لم يخطر ببالي وأنا أستعيد سباق الماراثون ذاك. شعرت بخجل من توتري، من سوء الظن الذي تصورت فيه الرجال على غير ما هم عليه، نسيت انني شاهدت طفلة بضفيرة شقراء تحمل قفص عصفور، وعجوزا أدرد يبيع الأسماك في قوارير ملونة، وكيف كان بعض من لاقيتهم يحاولون أن يفسحوا الطريق ويكونوا أقل فضولا مما تخيلت. ورغم ضيق المكان وتوقع الانفجارات في كل لحظة، فالناس لم تكف عن أن تعود هنا كما كانت تمارس يومها حتى ولو غدا شاقاً ومستحيلاً. عليّ أن افهم ما عليه الكائن الذي يعاند الموت، ويرمي نرد الحياة على موائد العالم، دون ان يخاف الخسارة، فقد حفل تاريخ العراق بالخسارات، ولكن صبر العراقيين لم ينضب بعد، ولأقل جمال تلك الكلمات المغموسة بالسلوان تجدها على كل فم. اليأس يخلق ما يشبه التعود على حياة شحيحة، يعز فيها كل شيء : الماء، الكهرباء، التنقل بحرية، الحصول على عمل او لقمة عيش، بل بقاء المرء حيا دون أن يتناثر جسده وروحه في ثانية واحدة. صور الأئمة في غير مكان، وهي تشير إلى هوية سياسية أكثر منها دينية. انها رسائل لها لغتها الخاصة : نحن هنا خلف هذا الساتر ووراء تلك البناية، نراقب ونرى ونمسك بما يثوي من الأحاسيس، ودون كل تدبّر أو تصور عن معنى الانحراف عن مصير خُط في الغيب. يمكن التخيل ببساطة من كان يرفع صور صدام ويفرضها على كل المباني، يفعل الآن الشيء ذاته مع شعارات عاشوراء وأعلام الطوائف وزعاماتهم. لم نصل بعد إلى رفع صور الخميني وخامنئي كما الحال في لبنان، فهي جرعة مرة على ريق العراقيين. * * * لأول مرة أرى طائرة الميديل ايست تغالب الوقت كي تهبط على الأرض. التفت إلى الشابين الجالسين جنبي بعد أن عجزت عن رؤية المدينة ومؤشر المسافة يقول اننا على مقربة منها: أين بغداد ولماذا لم نستبن معالمها إلى الآن؟ أجابني القريب : ألم تحزري السر، انه الغبار الذي جعل الطائرة تترنح بين صعود وهبوط. هكذا إذن، وصديقتي حدثتني البارحة عن جمال الطقس. شعرت بما يشبه الاكتئاب، فبغداد تُدبر عني وتظهر وجهها العابس. سهرت البارحة كل الليل في انتظارها، وترنمت الفجر بموسيقى اغنية لمطربة بغدادية عتيقة. كنت أخاتل فرحاً خفياً تملكّني في صمت فأزاح النوم عني. بضربة واحدة لفحني هواؤها، فرسم قوسا حول جسدي. أنظر أحواض الورود التي تغالب العطش والغبار، ومسافات تمتد من الكونكريت العازل، تلك العظمة الكاذبة وذلك القحط في الألوان. النخيل الذي أينع على الجانبين كان هو التعويض عن الحرائق التي شهدتها في طريق المطار خلال الزيارة الأولى، فالمعارك الشرسة بين القوات الأميركية وحرس صدام طالت رؤوس النخيل وتركتها تحترق لأيام متتالية. لم أعرف ما تعني النخلة في تراث العراقيين، إلا عندما شهق زوجي وهو يرى رؤوس النخيل المقطوعة. كان صوته أقرب إلى النحيب: ماذا فعلوا بالعراق؟ صمت دون أن يجيب، لأننا لم ندرك في ذلك الوقت غير خاتمة تليق بما حلمنا به في عودة مبتورة، عودة شعرنا فيها باليتم والفقدان. أن لا تبقى الأشياء التي تعرفها، حتى خفقان الأجنحة المرفرفة بين سعف النخيل. صدح بلبل في الصباح الأول الذي خرجت فيه للتريض في حديقة مضيفتي، وسمعت صوت ديكة، فتذكرت فاضل عباس هادي، الذي أفنى عمره في شتاء لندن، ثم غادر إلى تونس بعد أن باع لي أشرطته السينمائية، ولغيري كاميراته الثمينة التي لم يسدد كل أقساطها، وزع كل ما يملك كي يحصل على نقود المكوث هناك. قلت: لماذا؟ قال: كي أرى الشمس وأسمع في الصباح صياح الديك وصخب الباعة وعبد الحليم حافظ. ضحكت وأنا أتذكر عودته مفلساً حتى من صياح الديكة. أعرف أنه لم يستمع ولا يريد الاستماع إلى أغنية عربية، ولكنه يبحث دائما عن كل ما هو مفتقد، وفي كل مدينة يذهب اليها يجد فيها نقصاً فيظل في حومة البحث عن غيرها. ربما هو قلق من أضاع المكان الأول، وربما هو التعويض عن رفض فكرة التأقلم، مع أن فاضل أكثر الناس تصالحا مع الانكليزية وأفضل من يقرأ أدبها، واللغة مصدر الغربة الأول. الصباح المترف بعد أن غسل المطر الأسطح والنباتات، يحتشد بالفخاخ، بالنداءات السرية لحياة مغادرة تنده ذاكرتي. يلّح البلبل متنقلا بين نخيل وأشجار عالية دون أن يقترب من تلك الشجيرات التي أمر بها في غدوي ورواحي، ثمة مناورة بيننا، فعندما أرفع رأسي يصمت، ثم يستدير إلى جهة أبعد، ولكنه لم يتوقف. ينتظرني نهار يحتاج أن أرى فيه بغداد لا كما شاهدتها البارحة في ظلام الليل، حيث لم أجد سوى شبح مدينة اطفأت مصابيحها، وتركت جزراً مضيئة من خلل غبار يحّول الخرائب والتماثيل انصابا في معابد مهجورة. كنت على رغبة في محو كل توقع رسمته عن صورة بغداد، مشاهد التلفزيون ومرآى الحرائق التي تجدها على شبكة النت، وأشكال الناس التي تغذ السير إلى العمل، أو تركض فزعة من انفجار. في طريقي إلى اتحاد الأدباء أول المحطات التي التقي فيها الأصدقاء، أخبرت سائق التكسي أنني اقصد أحد المستشفيات، فهو دليلي إلى المكان الذي يجهله أصحاب الكار. كانت كل البنايات كما شاهدتها في عودتي الأولى، لا تغادر لونها البني المدبوغ، فحضارة الطابوق التي عرف بها العراق تستمر على هيئة مدينة تخاف الألوان المضيئة. شعرت بأنني في مواجهة القوى التي تحارب الموت بالكتمان، كتمان الإعلان عن مباهج النظر، ثقل الحياة الرابضة على صمت وهول. لا يقين من مستقبل يغسل الإنسان فيه ماضيه بماء الحاضر. هو الوجه الجانبي لمدينة تخشى المواجهة، فترتد أصواتها إلى الداخل. لا أعرف من قال تلك الكلمات التي حفظتها مطلع شبابي، ربما آنا اخماتوفا : أرغب أن أغطي وجهي بالبحر كي لا يرى الغرباء دموعي. بغداد تغطي وجهها بالغبار كي لا يرى الغرباء دموعها. تنزلق السيارة على عجل لتقطع تأملي بأقواس بناية جميلة حاولت تخيلها وهي مجلوة بمطر يضيء شبابيكها ويشرّعها للشمس. الإشارات تأتيني مثل وميض طبق طائر، أعيد ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح برأسي، وتمر الخرائب أمام عيني في الشوارع التي عبرتها لتستوي حكاية محلومة عن مدينة عارية أمام السماء تتحدى موتها. المكان الثقافي: اتحاد الأدباء هنا سأجد بقايا معركة الانتخابات التي لم تمض عليها سوى أسابيع قليلة. استقبلني رئيس الاتحاد فاضل ثامر الناقد والمترجم المعروف، بترحاب شديد، فقد ربطتني به صداقات زمن منصرم. ربحت قائمته أصوات الناخبين، رغم كل المطالب التي طمحت إلى تشكيل هيئة من الأدباء الجدد. الشيوعيون خسروا الانتخابات البرلمانية، ولكنهم لم يخسروا في عالم الأدب. ولكن المفارقة ان الحصان الرابح هنا يبدو على تعب، وفرسانه لا يقبلون باستراحة تجنبهم مقولة التشبث بالمناصب والاستحواذ على المكان الثقافي. كل ما في الاتحاد يشي بهزة أرضية تعرّض إليها المبنى : الأثاث القديم وبقايا غبار علق في كل الزوايا، الصور والبوسترات الحائلة الألوان والمكتبة التي لا تغري بتصفح كتبها، كلها توحي بالاختناق. كل شيء هنا عتيق ، عتيق، كأن يد الزمن أطاحت به وأصحابه غافلون. صور الشعراء : الجواهري والسياب والبياتي وحسين مردان وسواهم وضعت على جدران لم يمر عليها الطلاء منذ عقود. ربما يصبح المكان الثقافي ترميزاً لما خلف جدرانه من همسات وهمهمات، فقد شهد هذا الاتحاد أزمنة متبدلة، أزمنة الحروب والصراعات وأدباء المسدسات والشعراء المداحين، وروائيي الرئيس، ولكنه لم يعرف كيف يكون مكاناً ثقافياً. كانت المقاهي مراكز تجمع الأدباء وفسحة نقاشاتهم وبياناتهم الأدبية، واندفاعات المدارس والتيارات الحداثية. لم تكن تلك المقاهي الشحيحة، بل القبيحة بمظهرها والتي تمنع المرأة من الاقتراب من أبوابها، سوى امتداد لهذا المكان. جلست بقربي روائية وقاصة رقيقة اسمها ايناس البدري، كنت أقول لها كيف يقبلن كنساء المكوث في هذا المبنى، وكيف لا يطالبن بقدح شاي أنيق وشرشف بسيط يغلف طاولة فقيرة ولكنها نظيفة. ضحكت وتقبلت نقدي برحابة من يتفهم الغرباء القادمين من الخارج. العراقيون الذين انتجوا أجمل اللوحات والمنحوتات عادوا إلى ثقافة مطلع القرن العشرين المتقشفة التي لم تعرف إلا قلة من الأدباء المترفين. وعندما دخل أبناء الذوات إلى بهو الثقافة في الأربعينيات والخمسينيات، بدأت الأماكن الثقافية تكتسب ملامح أهلها، مقهى البرازيلية الكولنيالي الجميل الذي ترتاده النساء، أذكره مثل حلم في السبعينيات عندما التقيت أول مرة فؤاد التكرلي. أين ذهبت الكاليريهات الأنيقة التي تدير الكثير منها النساء، ومحترفات الرسامين والنحاتين التي كانت ملتقى الأدباء، حيث يطل بعضها على دجلة أو تحتمي بظلال الحدائق والبساتين. أين ذهبت بيوت الأدباء والمعماريين الذين تفننوا في ريازتها وترفها؟ أخاف السؤال وأنا اتذكر الخزّافة نهى الراضي التي أفاضت لي الشرح عن بيتها ومحترفها الذي بنته وسط بستان. كانت تعيش وحدها وتتريض كل يوم على دراجتها. هربت نهى من ثقافة عدي، وإشعاعات قنابل الأميركان كما تقول. لم يكن سقف مطالبها عالياً، فهي لم تعارض النظام، ولكنها لم تكف في اللقاء الذي جمعتنا به ميسون الباجه جي عن أن تفيض بالشرح عن صورة الثقافة التي تتجه إلى حتفها. كان ذلك قبل وفاتها بعقد من الزمن. عندما هجر أدباء الستينيات مقهى البرازيلية إلى حسن عجمي بأرائكه الخشبية المهترئة، وكؤوس شايه القذرة، وطلته الكالحة، كانوا يسجلون زمنا عبثياً ينذر بالكارثة. لا يمكن أن نفصل المكان عن مضمون ثقافة تخشى الجمال والأناقة، فالعراق الذي علت فيه هتافات الحروب والقمع، يتستر على نفسه بالخراب، يخاف الأديب أو الفنان التبختر ببدلة أنيقة وشال ملون أو قميص هفهاف، فكم من أديب وفنان جز شعره الطويل أو هدد بقطع رأسه لمجرد إعلانه فرادة بالمظهر تشي بما لا يقبله الحاكم والسيد القادم من أرياف مقحلة. كانت الثقافة العراقية تقاوم، واليوم تعلن استسلامها، فقد تعبت من تعبها.