مازالت ذكرى شيخنا الأديب الراوية والشاعر حمد بن إبراهيم الحقيل - رحمه الله - راسخة في ذاكرة من كانت له علاقة صداقة ومعرفة به، فالشيخ كان شخصية جذابة في حديثه وكلامه، سواء كان مخزوناً أدبياً تراثياً أو قصصاً هو يرويها شاهدها بنفسه أو سمعها ممن شاهدها وعاصرها، وبحكم علاقتي الطويلة معه استفدت منه كثيراً من خلال زياراتي المتكررة له، وهو كذلك شخصية مرحة جداً لم أشاهده يوماً من الأيام عابساً، بل إنه يبعث السرور لكل من جالسه، فالنكتة والطرفة حاضرة لديه سواء كانت شعراً أو نثراً، فهو حاضر البديهة دائماً، وعندما ألّفت عن شخصيته كتاباً بعنوان: (المؤرخ والنسابة حمد بن إبراهيم الحقيل شيخ الأدباء وأديب الشيوخ) كان هذا التأليف مجسداً لشخصيته الأدبية والقضائية وإنتاجه التأليفي، وهنا نطرح شيئاً من سيرته التي عرفتها عن كتب وصحبة طويلة. وُلد حمد بن إبراهيم الحقيل في المجمعة العام 1338ه، كما في ترجمته في كتابه (كنز الأنساب) وقرأ على المقرئ المشهور الصانع مبادئ القراءة والكتابة حتى تعلم، سافر إلى مكة وهو شاب صغير أرسله أبوه ليتعلم ويدرس على الشيخ القاضي المشهور سليمان بن حمدان - رحمه الله - ولازمه ملازمة تامة، بل إن الشيخ حمد سكن في منزل شيخه كأنه أحد أفراد الأسرة في مكة والطائف، وكانت الدراسة في مكة بالمسجد الحرام.توحيد وحديث ودرس حمد الحقيل - رحمه الله - على سليمان بن حمدان - رحمه الله - التوحيد والحديث والفقه واللغة العربية، وكان الحقيل يثني على شيخه ابن حمدان دائماً، وسمعته مرات كثيرة يروي عنه هذه الأبيات: رياض الصالحين إليك أهدي لآداب الشريعة خير هادي أجاد الاختيار لها إمام عظيم الشأن يعرف بالنواوي أحاديث صحاح ليس فيها غريب المتن أو مجروح رواي ودارت الأيام والسنوات فزار الشيخ سليمان بن حمدان تلميذه في محكمة الخرج حينما كان الشيخ حمد رئيساً لها فأكرمه الحقيل في منزله. ومن المشايخ الذين قرأ عليهم حمد الحقيل - رحمه الله - الشيخ عبدالله العنقري - رحمه الله - قاضي سدير، قرأ عليه في الفقه مدة من الزمن في المجمعة، وقرأ على الشيخ المحقق العالم عبدالله بن حميد -رحمه الله - حينما كان قاضياً لسدير، وكان بينهما صحبة وصداقة امتدت حتى آخر حياة الشيخ ابن حميد، وكان الحقيل يرسل بعض مؤلفاته، ويرسل الشيخ ابن حميد رسالة شكر وثناء، ونشرتها في الكتاب الذي ألفته عن حمد الحقيل. أدب وفكاهة وكان حمد الحقيل - رحمه الله - ملء السمع والبصر والشهرة عند أصدقائه ومعارفه، وحتى لما كان قاضياً في الخرج كان منزله مرشاداً لكل من عرفه، بل جعل سكناً أمام منزله بالخرج لمن أراد أن يبيت، كانت الموسوعية لدى الشيخ حمد هي الجذابة لجلسائه وأصدقائه بل الدعابة والظرافة والنكتة الحلوة والظرافة والأحاديث والحكايات المليحة الممتعة والأبيات الشعرية بالعربي والشعبي حاضرة وتلقائية ومتدفقة، البهجة والسرور والأنس دائماً هي فلسفته في الحياة، والتمتع بالحياة زينتها، لم أشاهده يوماً من الأيام عابساً متكدراً ضائق الصدر والنفس بل العكس، حينما أزوره في منزله أخرج وأنا في حالة انبساط وهناء، هذا فضلاً عن الفوائد التي أسمعها منه، ولقد حبب إليّ الأدب والقراءة منذ أن التقيت به، بل منذ أن قرأت كتابه (الوحشيات والأوابي) الذي قرأته وأنا في المرحلة المتوسطة ومازلت أعكف على قراءته، هذا الكتاب هو تذكرة شعرية قيّد فيها من خلال اطلاعه الغزير على الأدب نخبة ضخمة من شوارد الأبيات وفرائد النوادر من الحكم والأمثال الشعرية التي لا تتجاوز الثلاثة أبيات، إضافة إلى تعليقاته على الأبيات بالنقد. صالون أدبي وكان منزل حمد الحقيل - رحمه الله - في الرياض حينما استقر بها ندوة يؤمها الكثير من أصدقائه ومحبيه، وذلك من العام 1388ه شبه يومياً، مادام لم يسافر ففي مجلسه الأديب والشاعر والمحب للأدب والشعر وشخصيات من الموظفين، تدار فيه أنواع وأشكال من الأحاديث بين الجالسين، ومنهم الشيخ عبدالله بن خميس - رحمه الله -، فكان هذا الصالون الأدبي من أوائل الصوالين الأدبية في الرياض - صالون الشيخ حمد الحقيل -، كانت طبيعة هذا الصالون العفوية والتلقائية - بساطاً أحمدياً - ولقد فاتني هذا المجلس؛ لأنني لم أعاصره، لكنني عوضت نفسي بمعرفة الحقيل فيما بعد العام 1412ه في منزله الجديد بحي النموذجية وكأن مجلسه أمامي الآن - الذي أصبح فيما بعد مكتبة -، ولقد صحبت الحقيل مرات وكرات إلى المكتبات التجارية لشراء بعض الكتب، وحينما أخبِرَه بصدور كتاب أدبي قديم يطلب مني شراءه، وكم من مرة اشتريت له بعض الكتب، ولعل آخرها أتذكره الحمدونية الذي سر بها أيما سرور، ولقد كان الشيخ حافظة نادرة للتراث العربي القديم. عشق الكتاب ولم يمل حمد الحقيل - رحمه الله - من الاطلاع حتى في آخر حياته، وكان قارئاً سريع القراءة يعرف قيمة الكتاب بسرعة مذهلة، فيثمن الكتاب ومنزلته، ويقول لي دائماً: من عيوب التراث النقل من بعضهم لبعض - يقصد المتأخرين ما بعد التدوين - وإصدار الكتب القديمة المعتمدة في الأدب العربي كالأغاني والشعر والشعراء والعقد وعيون الأخبار، فهذه أصول، فكل الذي جاء بعدها اعتمد عليها، والكتاب الذي كان يطربه ويحبه وهو كتاب (وفيات الأعيان) للعالم القاضي أحمد بن خلكان - رحمه الله - الذي يعده الحقيل من أفضل وأحسن وأمتع كتب التراجم المحررة والمحققة، وهو الذي نصحني بأن أقرأ فيه دائماً، وفعلاً اقتنيته العام 1415ه وأصبح سميري، فهو حافل بالمعلومات التاريخية والأدبية واللغوية، وجاء محققه د. إحسان عباس - رحمه الله - فزاده حسناً على حسن في تحقيقه على نسخ مخطوطة للكتاب وفهرسته الجيّدة وخصوصاً التراجم العارضة في الكتاب، فرحمة الله على د. إحسان عباس الذي أخرج الكتاب بتحقيق رصين وخدمة عظيمة تليق بالكتاب وبمؤلفه، وكان حمد الحقيل يقول: «إن ابن خلكان حجة» وكان يروي بيتيه وهما: يا سائلي عن حالتي خذ حالتي ملخصاً امش على ثلاث أجود ما فيها العصا فريد ونادر وهكذا كان حمد الحقيل - رحمه الله - يتمثل بالأبيات التي تجري على لسانه في أحاديثه ويترنم بها في كلامه أو تعليقه، يأتي بشاهد على هذا وذاك، فهو فريد في هذا الباب النادر شوارد الأبيات، والدليل كتابه (الوحشيات) الذي حوى جملة ضخمة من هذا التراث المليح، ومن الكتب التي كان يحبها حمد الحقيل كتاب (الكنز المدفون) الذي ينسب للسيوطي، وقد أتى بأدلة من الكتاب أنه ليس للسيوطي بل هو ليونس المالكي - من علماء القرن الثامن - وهو كتاب كشكول؛ جمع فيه مؤلفه الكثير من الفوائد التاريخية واللغوية والأدبية والنوادر على شكل فوائد كان يقول فائدة ثم يذكر هذه الفائدة، وهو كتاب موسوعي ضخم نقل عن كتب كثيرة ومتنوعة وكتب مفقودة - وعندي نسخة علق عليها الشيخ بتعليقات على طرة الكتاب. غزارة القراءة وخاض حمد الحقيل - رحمه الله - في بحار الأدب العربي التراثي واستخرج من نوادره، فكتبه حافلة بالنقل عنه مثل كتابه الأول (زهر الأدب) و(أنساب ومفاخر العرب) وكتابه (كنز الأنساب ومجمع الآداب) وكتابه التحفة (صيد القلم) وكتابه (عبدالعزيز في التاريخ) و(الوحشيات)، كلها تدل على غزارة هذه القراءة للتراث العربي واطلاع واسع، وكتابه (صيد القلم) هو من أمتع مؤلفاته التراثية شاهد على عمق الاختيار وإجادة النقل للطريف والممتع من الأدب العربي، هذا الكتاب الصغير جذاب لمن قرأه بل سوف يعيد قراءته مرة بعد مرة، وفيه نقد أدبي منه لبعض ما يختار من الأدب، فالكتاب تحفة من تحف المكتبة السعودية، وإن كان صغير الحجم فليست العبرة بالكم بل بالكيف، إنه حقاً أمتع ما أنتج الحقيل وكل من قرأه سر به، وللأسف لم يعد طبعه منذ ثلاثين عاماً، وكل كتبه لم يعد طبعها، وله ديوان شعر شعبي مخطوط لم ينشره اطلعت على بعض قصائده وهو يقرض الشعر العربي الفصيح، وله رثائيات في أصدقائه أمثال الأمير سعد بن محمد آل سعود - رحمه الله - وكان صديقاً له وطالت صحبته له أكثر من عقدين من الزمن، فكان الوفاء مجسداً في قصيدة، ورثى كذلك صديقه الأمير عبدالله بن محمد بن سعود الكبير - رحمه الله - العام 1414ه، وكذلك رثى صديق الطفولة والشباب عبدالعزيز التويجري - رحمه الله - العام 1428ه - وهي آخر مرثياته - رحمه الله -. مؤرخ أصيل وكان حمد الحقيل - رحمه الله - تولى القضاء في الخرمة وضرما وأخيراً في الخرج حتى العام 1388ه، فهو قاضٍ حصيف ومعروف بسرعة الإنجاز والبت في القضايا، وقد أثبت ذلك في كتابي الذي ألفته عنه، تحدث عنه الأستاذ الأديب محمد عبدالمنعم خفاجي قائلاً: «والعلامة الشيخ حمد الحقيل مؤرخ أصيل، وأديب وشاعر في الدرجة العالية، أما أصالة حسه التاريخي فيبدو في هذا الكتاب، وفي كتابه الآخر (كنز الأنساب وصحيح الآداب) من أروع صوره». وأمّا ذوقه الأدبي والشعري فيحدثنا عليه مختلف كتاباته وقصائده التي تعد من النماذج الرفيعة حقاً، وهذه الأبيات القليلة التي صدر بها كتابه (عبدالعزيز في التاريخ) تدل على موهبة شاعر عبقري يقول الحقيل منها: ما للزمان؟ إلا حر بنهنه؟ يفري أديمي بأنياب وأظفار نشدته حق آدابي فأشعرني بأن ذنبي آدابي وأشعاري ما أصعب الفقر لكني رضيت به لما رأيت الفتى في جانب العار قنعت به وامتد مالي فالسماء يدي ونجمها درهمي والشمس ديناري ومن نماذج قصائد حمد الحقيل هذه القصيدة: إن امتداح إلهي فرض عليّ محتم وفي امتداح سواه لزوم ما ليس يلزم كم جاهل يتألى وعالم يتألم فقلت دهري بخيل بالعدل والله أكرم وقلت هذي سبيلي من شاء فليتقدم آمنت بالله رباً وبالنبي المعظم وبالكتاب سراجاً وزاجراً عن محرم توفي حمد الحقيل بتاريخ 1 /3 / 1429ه وصلي عليه بمسجد الملك خالد بالرياض ودفن في مقبرة أم الحمام، رحمه الله رحمةً واسعة وجعل مستقره الفردوس الأعلى. حمد الحقيل بعد أن تقدم به العمر وُلد الحقيل في المجمعة عام 1338ه كتاب حمد الحقيل «عبدالعزيز في التاريخ» كنز الأنساب ومجمع الآداب من تأليف الحقيل من الكُتب المُحببة إلى حمد الحقيل صلاح الزامل