للموت جلال أيها الراحلون، ولنا من بعدكم انتظار في محطات المغادرون قد تطول وقد تقصر على مر السنون وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تبكي.. حتى يقدم بلا استئذان أو تردد، يختارنا واحدا تلو الآخر.. «لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون». صباح الخميس 1 / 1 / 1442ه، وبداية عام جديد صباح ليس كأي صباح!! أنه صباح مرٌ في فمي، كل ما حولي يوحي بالذبول، حتى الكلمات تتحشرج فأستعيدها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة المدود. حين تستيقظ على خبر أليم وله من نصيبه حزن دفين فإنك بلا شك ستكون ممن يسترجع بثبات ويقين وثقة بموعود رب العالمين (إنا لله وإنا إليه راجعون). لكن المرارة تعظم شدتها ولا تستساغ ويصعب معها كل عسل يشترى أو يباع إذا كان الفقد قطعة من جسدك طالما جالسك وآنسك وسأل عن حالك وأحوالك، وأعانك وحملك، إنه أخ خرج من رحم أمي وتربينا تحت سقف واحد، عاش من العمر أقصره ولم تكتحل العين بعد برؤيته أو تشبع المقل بعظيم مشاهدته. نعم هو أخي وصديقي وحبيب فؤادي (بشر) ذاك الذي لا يمكن لمداد أن يكفي لسرد سيرته ولا ليراع أن يكتبه، إنه ليس مجرد أخ فقط بل هو أخ عطوف، رحوم، كريم السجايا، عظيم العطايا، إن قدمت إليه تطلب مشورة أو مساعدة أو إعانة أو حاجة وجدت وجهاً بشوشاً يشع بالترحيب والمبادرة! لا أذكر أني سافرت أو غادرت مكاني إلا اتصل يسأل عن أحوالي وهل وصلت أم بعد! وهذا ديدنه مع إخوتي جميعا وفي كل الظروف والأحوال حتى وهو في مرضه! يتفقد صغيرنا وكبيرنا ويسأل عن صغير أبنائنا قبل كبيرهم حتى إنه في العيد الماضي رغم مرضه أبى إلا أن يذهب ويسلم على بنات إخوته وهن مازلن صغارا تواضعا وتراحماً، بار بوالدتي ووالدي لم يغضبهم لحظة أو فترة، يزورهم في اليوم أكثر من مرة رغم ما يعانيه من تعب في الوصول إليهما. عانى في مرضه الذي مكث معه قرابة السنة وثمانية أشهر أشد الأوجاع وأقساها، مكث يعاني ويصبر ويسترجع ويحوقل وتسأله فيقول: (أنا بخير ولله الحمد) يخفي كثيرا من آلامه وأسقامه خوفاً من أن نحزن له ونألم! لم يتضجر أو يتسخط من مرضه بل هو مسلّم بقضاء الله وقدره وكل من زاره أو عاده لاحظ ذلك في حديثه وكلامه! مات رحمه الله وهو مبطون ونسأل المولى أن يكون من عداد الشهداء الذين ذكرهم النبي صلي الله عليه وسلم بقوله (الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه) متفقٌ عليهِ. إن ما يثلج الصدر ويعلل النفس ويخفف من ألم المصاب جموع المصلين عليه في المقبرة (رغم الوباء) ودعاء المسلمين له وذكره الحسن الذي سبقه حتى وهو في مرضه من أناس عاشروه فأحبوه أو سمعوا عن خصاله فألفوه، وهذه ولله الحمد من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا كما أخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (أثنيتم عليه خيرًا، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض). ومما يخفف المصاب والحزن أنه أخلف في عقبه أبناء بررة صالحين كانوا سنداً لوالدهم في عافيته وخدماً له في مرضه وأحسب أنهم ممن عدهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. وذكر «ولد صالح يدعو له»). اللهم اربط على قلب والدي واربط على قلب أبنائه وذويه ومحبيه، وجازه عنا خير الجزاء، اللهم واجمعنا به في مستقر رحمتك.