لم تكن إقامتي في غرفة نومها واستلقاءاتي على تختها الخاصِّ بالعاديَّة مُطلقًا وأنفاس غسان كنفاني وعبد الرحمن الكواكبي تنبعثُ من بين زوايا مكتبتها العامرة بالمجلدات النادرة والكتب المتراكمة فوق بعضها وفي صفوف الأرفف من أعالي السقف لدانيته ورسائل مي زيادة لجبران خليل تتطاير مفرداتها من بين صفحات روايتها الأولى (الحُبِّ السَّماويِّ بين مي زيادة وجبران خليل جبران) ورائحة الياسمين الدِّمشقيِّ النَّابِت في أحواض زرع بلكونة شقتها بمساكن بَرْزة أشهر أحياء دمشق تُطاردُني حيثما يمَّمتُ أنفي طاردةً من قلبي شياطين العُمر وبؤس الحياة! كانت وعلى الرغم من أناقة لهجتها الشَّاميَّة ونبرة بحَّتها الدِّمشقية المُفعمة بالحنان لا تتحدَّث معي في الأغلب إلا باللُّغة العربيَّة المُصانة تَبيانًا وتجويدًا! كنتُ ليلتها أناقشها وفنجان قهوةٍ صنعته بنفسها وعلى ضوء قمر مساءات أغسطس 2008م وفي بلكونتها المُطلِّة على جبل قاسيون ونسائم الشام الباردة تحثني على الاسترسال في نقاشنا حول رحلتنا السياحية في مدينة اللاذقية خلال عطلة الويك إند؛ إذ بها تبحلقُ من خلف زجاج نظارتها الطبيَّة السَّميكة وبتساؤلٍ صارم: ما هذه الكلمة الأعجمية! ويك إند!! أنتِ خريجة لغة عربية وشاعرة! عليك أن تفخري بلغتك، ابتعدي قدر المستطاع عن استخدام كلمات غير عربية في حياتك وكتابتك، تلك هي الصانعةُ اعتدالاً فكرًا وإبداعًا! الناقدة الماجدة ماجدة محمَّد حمُّود أستاذ النَّقد الحديث في جامعة دمشق ومعلمتي في سنواتي الأولى في جامعة الملك فيصل بالأحساء وصاحبة الإثني عشر مؤلَّفًا في الأدب والنَّقد وأستاذة الترجمة في جامعة السوربون في باريس. كانت كثيرًا ما تردد في مراسلاتها: اسمعي أريد ابنتي متميزة ولا أريدها فتاة تقليدية، ولا أريد أن تهزمها المواضعات الاجتماعية! حين يفلس الإنسان من الداخل، لن يجد سوى الإسفاف والدوران حول لغة الجسد! هذا ما علمتني وتعلمني إيَّاهُ وصداقتنا المَهيبة العجيبة منذ 1997م. لم تكن زيارتي للشَّام الأولى من نوعها صيفية 2008م، وما كانت سوريَّة بالجديدة عليَّ بهيكلها الجغرافي؛ وامتدادها التاريخي؛ وإرثها الثقافي! كانت أغلب أحاديثنا وطريق سفرنا معًا للاذقيَّة عن محور الحياة ومفاهيمها من خلال منظورها الفكري الوجودي المنصبِّ على الآخر والموروث والأدب المُقارن وتطوير الموهبة وصناعة الإبداع! كان عليك وأنت تكتب الشِّعر وفي مصيف شامي أسطوري ناصع الجمال وأشجار غابات الصنوبر والسَّنديان والبلوط تعكس ظلالها ومياه بحيرة مشقيتَّا عروس جبال اللاذقية المتوَّجة بافتتان الفردوس وعَبَق الجِنان أن تعرف جيِّدًا كيف تصنع من الخيال جمالًا مُصطبِغًا بصِبغةِ العارفين جمال الله وإعجاز صنعته! كنتُ في رحلة القارب والماجدة نعومُ في مياه البحيرات السَّبع في (مشقيتَّا كل العالم عاشقيتَّا) بترداد اللاذقويين ترحيبًا ونخترق عَباب الصَّمتِ المُطبق لذواتنا العالقة بسكون البحيرات بصوتِ السِّتِّ فيروز وهمسات الماجدة في أذني: لك اكتبي شِعرًا! فالشِّعرُ نداءُ الأعماقِ! استجيبي لهذا النداء بأي شعورٍ يعبر بدقة إلى روحك! وكأنَّ جمال مشقيتَّا وافتتان القلبِ شغفًا أخرسني نُطقًا وتعبيرًا ولم أكتب فيها إلى بعد مرور سنةٍ كاملة على الرحلة لأوثِّق اللحظة بقصيدة أغرودة الشُّعراء : وَجْهُ الطَّبيعَةِ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ يحكي الجَمالَ بقِصَّةِ العَذْرَاءِ تِلْكَ التي ما افْتُضَّ بعدُ جَمَالُها وَتَسَرْبَلَتْ مَجْلُوَّةً بزهَاءِ وَزَهَتْ مَحَاسِنُ رَوْضِهَا في قُبْلةٍ عُذرِيَّةٍ مَشْبُوبَةٍ بَيْضَاءِ والرَّوعةُ الكُبْرَى تَجَلَّتْ في الرُّبَى عِنْدَ المَغِيْبِ ولَحْظَةِ الإغْفَاءِ وقَدَاسَةُ الصَّمْتِ المُغَيَّبِ في الوَرَى صَلَّتْ هُدَىً في مَعْبَدِ الخُيَلاَءِ الصَّمْتُ والوجدُ المُبَعْثَرُ حَوْلها يَختالُ في زَهْوِ الصِّبَا المُتَرائِي وَتَمَوَّجَتْ آهٍ بأُخْرَى مِثْلِها تَفْتَضُّ أَسْرابَ الحَنينِ النَّائِي خَلْفَ المَتَاهَاتِ الرَّتيبةِ تَنتهي فَتُجيبُني الذِّكْرَى على استحياءِ عندَ المَغيبِ بدا الفَضاءُ مُحَيِّرًا يَنْعَى الوجودَ بِدَمْعَةٍ خَرْساءِ رُوْحي انشطارٌ والسَّعادةُ رَقْصَةٌ مُنْدَاحةٌ سَكْرَى بِليلِ شَقائي مَشْقيتُّ يا فَجْرًا تَبَسَّمَ صَادِقًا يا جَدولًا يَنْسابُ في صَحْرائي مَشْقيتُّ يا سِحرَ الطبيعةِ إنَّني عَطْشَى فهلْ أَرْويتِني بِسَخاءِ مَا غابتِ الأَجْواءُ عنِّي لَحْظَةً «مَشْقيتُّ» يا أُغْرودةَ الشُّعراءِ آمنتُ بالحُلُمِ الجميلِ عقيدةً شَمَّاءَ مُرْسَاةً لَدَى العُقلاءِ مشقيتا اعتدال ذكرالله