يلفت نظري بشدة تعبير ك»التحرير الصحفي»، فهو متعدد الاستخدامات، وقد تتم عملية التحرير على النصوص المكتوبة ومقاطع الفيديو المصورة وكذلك الملفات الصوتية، لكننا للأسف ما نزال متمسكين بالنص المكتوب أشد التمسك، ولا نولي اهتماماً كبيراً بمفردات العصر الحديثة ولا الأنماط الصحفية المستحدثة ووسائط التعبير والإعلام الجديدة، وقد تحدثت في السابق على سبيل المثال عن الجهد العالمي المبدع المبذول في الصحافة التفاعلية، كنمط جديد لعرض التحقيقات والمواد الاستقصائية، اليوم أريد التحدث عن ثقافة الاستماع للمادة الصحفية عبر البودكاست، أو البرامج الصوتية القصيرة، تتبع أنفاس المصادر المرهفة عبر الميكروفون ثم سماعات الأذن، ثقافة ما تزال بعيدة عن ذائقة الجمهور العربي إلا أنها تحقق نجاحات وشعبية حول العالم. ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أفول نجم الصحافة التقليدية، مقابل مساحات أكثر اتساعاً من الممارسة الصحفية الإلكترونية والمزيد من الأدوات المتشعبة منها، يطرح البودكاست، أو الملف الصوتي كوسيط صحفي جديد، تعتمد عليه كبريات المؤسسات الصحفية لعرض مادتها في كبسولة مسموعة للمستخدم، يستطيع تناولها في الوقت المناسب، ويتناسب طردياً الإقبال عليها مع مدى حرفية كتابتها وصناعتها وصولاً إلى شكلها النهائي. بالتأكيد، الكثير من المواد الصحفية تستلزم الصورة جنباً إلى جنب مع الكلمة، غير أن البودكاست بوسعه أن يكون محلاً لموجز إخباري صباحي، أو حلقة حوارية تحليلية، أو كواليس صناعة القصة الصحفية، والتفاصيل الإثرائية حولها، أو حتى وسيطاً جيداً جداً لاستعراض عملية التحقق من مصداقية القصص الصحفية وتفنيدها. ما يميز البودكاست أنه وسيط سهل التناول، يمكنك بكل سهولة أن تحمله وتستمع إليه في مشوارك الصباحي للعمل، وتوزع اهتمامك بينه وبين القيادة، هكذا وبكل بساطة. البودكاست هو الابن الشرعي والتطور الطبيعي لمحطات الأثير، وبالرغم من اعتماده على مستوى عالمي كوسيط صحفي من الدرجة الأولى، أرى تأخراً في الالتفات إليه عربياً من المؤسسات الصحفية، وقصر استخداماته على بعض المنصات التي تقدم مواد ثقافية أو منوعة أكثر منها صحفية. أود أن أطرح بعض النماذج الممتعة وذات القيمة الصحفية لسلاسل البودكاست، ويحضرني هنا بودكاست من إنتاج شبكة BBC بعنوان «التصحيحات» أو Corrections، المتخصص في إعادة طرح وتفنيد القصص الصحفية التي حققت لدى نشرها أصداء واسعة، وحالة من الجدل بإعادة تتبع المصادر وعقد اللقاءات مع الخبراء، وكذلك المحررون على مدار قرابة 45 دقيقة للحلقة الواحدة، ما يسفر في النهاية عن وجه آخر للقصة التي تابعناها للمرة الأولى، قيمة صحفية رائعة للشباب الصحفيين ومتدربي أقسام الإعلام بالجامعات أن يتابعوا إعادة تفكيك القصص الشهيرة وبحث ما في سياقها من ثغرات وما يمكن أن يكون قد تعثر فيه المحرر من أخطاء فنية أو مهنية. من الواضح إذاً أن القيمة المعرفية ليست دائمًا مرتبطة بالإبهار البصري، يمكن للأحاديث أن تخلق وعيًا جديدًا.