ظهر لنا جميعاً، من خلال التغطيات الصحفية والإعلامية، العدد الهائل للاتفاقيات الضخمة التي أبرمها سموه مع كبرى الشركات في العالم، وهي تلخص «المفتاح» الاستراتيجي للجولة برمتها أعني «البحث عن شركاء ينخرطون في العجلة المتسارعة للنمو في البلاد».. بالنسبة إلى مقاربتي التي أتناول فيها الأبعاد الإستراتيجية لجولة سمو ولي العهد في أوروبا وأميركا فقد اخترت أن تكون المقاربة ضمن ثلاثة أبعاد استراتيجية رئيسة هي: * البعد السياسي والأمني * البعد الاقتصادي * البعد الاجتماعي والثقافي البعد السياسي والأمني: تميزت جولة سمو ولي العهد بالتكثيف الشديد في النشاطات والفعاليات والاجتماعات طيلة الأيام التي استغرقتها الجولة وهي حوالي 25 يوماً، وقد تنوعت هذه النشاطات بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فشملت فعاليات سياسية عليا ومتوسطة، كما شملت شركات ورجال أعمال من مختلف المجالات كما سنأتي على ذلك فيما بعد. ولم يكن من بد في أن البعد السياسي والأمني كان حاضراً وبقوة في لقاءات واجتماعات تتم على ذلك المستوى من التمثيل القيادي العالي الرفيع، والمؤثر في صناعة القرار. وفِي كل محطات الجولة كانت حاضرة بطبيعة الحال مشكلات المنطقة الداخلية والخارجية، وما تواجه من تحديات ومخاطر: في اليمن، في سورية، في ليبيا، في العراق، في لبنان وفِي كل مكان! ويعتقد كثير من المراقبين أن سمو ولي العهد كان واضحاً في مناقشاته، وهو وضع النقاط على الحروف حول كل المشكلات الماثلة، سواء منها الموشكة على النهاية أو المنجذبة نحو التطور: فدعمنا للشرعية في اليمن سيستمر (حرباً أو سلماً) ونحن لم نفعل ذلك إلا بطلب من الشرعية ذاتها، وما كان علينا أن نتردد ولو للحظة واحدة، ليس فقط حفاظاً على أمننا، ولكن أيضاً خدمة لأمن العالم، إذْ لا يمكن أن نغفل عن استفحال خطر منظمتين إرهابيتين خطيرتين على حدودنا، واحدة في شمال اليمن والأخرى في جنوبه: الحوثيون والقاعدة. ولا يغيب عن بال أحد في الوقت نفسه خطر هذه الأوضاع على مستقبل الممرات المائية والتجارة العالمية، وهو الخطر الذي لن يسلم منه أحد على هذا الكوكب. وهنا كما نلاحظ يتداخل السياسي مع الأمني الذي يمتد إلى الإرهاب العابر للقارات، وسنأتي على إحدى شعبه الرئيسة في المنطقة وهي إيران وتمويلها وتدريبها للمجرمين من الإرهاربين الذين وصل خطرهم وإيذاؤهم إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية. فضلاً عن تدخلاتها المستمرة في شؤون المنطقة وزعزعة الأمن فيها. فالإرهاب الإيراني، الممول من جيوب الشعب الإيراني، هو الذي يهدد السلم الاجتماعي والسياسي في العالم، وهو الذي يفاقم الأوضاع في سورية والعراق واليمن، ويزرع الانتحاريين والمخربين في البحرين والكويت والمملكة وغيرها. فنحن متأكدون اليوم، وقبل اليوم، أن العدو الأول لسكان هذا الجزء من العالم هو إيران، ولفحش العداوة مع طهران جعلتنا نعلن صراحة أن الخطر الإيراني على المنطقة برمتها يمكن أن يكون مجال التقاء مع إسرائيل. وهناك الوجه الآخر للتطابق في الآراء والموقف تجاه إيران وهو وجه الإدارة الأميركية الحالية، وزيارة ولي العهد لأميركا أكملت الخيوط الأساسية في مستقبل أمن المنطقة، كما لاحظنا أن موضوع إيران كان موضع اتفاق في محطات الجولة الأخرى في أوروبا وبلا أي مواربة. وهكذا يصبح الوقوف في وجه مخاطر إيران أكثر قوة، وربما أكثر صرامة. وما دام قد جاء ذكر إسرائيل قبل قليل فقد ظهر أن هناك دوائر إعلامية وسياسية جعلت من تصريحات سمو ولي العهد المتعلقة بمستقبل العلاقة مع إسرائيل موضوعاً للإساءة إلى سياسات السعودية (العربية) وتكاد تلك الدوائر تصعد بهذا الموضوع إلى مستوى الخيانة القومية، مفيدين في ذلك من ضعف الذاكرة عند الكثيرين، ومستندين إلى عواطف مزيفة ومزوّرة في ما يتصل بماضي العلاقة مع قضية فلسطين وحاضرها ومستقبلها. نعم تحدث الأمير عن العلاقة مع إسرائيل، وعن مصالح مشتركة بين الطرفين، ولكنه لم ينسَ أن يضيف دائماً أن هذا سيحصل إذا تحقق للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي العدل والاستقرار اللذان يوافق عليهما الطرفان. فما الذي يخرج في تصريحات ولي العهد عن «مبادرات السلام» التي أطلقتها المملكة، ووافق عليها العرب والفلسطينيون، منذ فاس الأولى وإلى مبادرة بيروت وما تلاهما؟! كل المبادرات التي أطلقها العرب والفلسطينيون تتوخى السلام مع إسرائيل، والاعتراف بها، وإقامة نظام اقتصادي وسياسي يحقق النمو والاستقرار لجميع بلدان المنطقة كلها. الفرق أن ولي العهد كان أكثر وضوحاً وشجاعة من غيره فتحدث صراحة عن إمكانية قيام مصالح مشتركة البعد الاقتصادي في الجولة: أعلن سمو ولي العهد في بداية الجولة، وكرر ذلك في مناسبات لاحقة، أن من أهداف جولته البحث عن «شركاء» أكفياء ينخرطون في منظومة الفعاليات الاستثمارية والفنية والتقنية التي ستكون «الرافعة» الرئيسة للطموحات الكبيرة، والبرامج الحيوية، والأهداف المثلى للرؤية 2030. نحن لا نستطيع بغير هذا «المفتاح» الذي وضعه ولي العهد لجولة أن نفهم كيف يمكن أن تستمر زيارة الأمير للولايات المتحدة وحدها حوالي 19 يوماً لم يستغرق العمل السياسي منها سوى 3 أيام والباقي كان زيارات لأهم المدن الكبرى والشركات العملاقة التي يبحث فيها سمو ولي العهد عن ضالته في التنمية والتطوير والبناء (الشركاء الأقوياء الأكفياء)؟، بالإضافة إلى اللقاءات والاجتماعات مع كبار رجال الأعمال ومع الفعاليات الاقتصادية المختلفة، فالتجربة الأميركية هي الأقوى، والصداقة مع الولاياتالمتحدة هي الأمثل والأكثر رسوخًا. وولي العهد فعل في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا مثل الذي فعل في أميركا. وكان يطرق دائماً ثلاثة محاور في مقارباته حول مستقبل التنمية والرؤية: المحور الأول: هو رؤيته للإمكانات والثروات الكامنة في بلاده، تلك الثروات التي لم تكتشف، أو لم يلتفت إليها، أثناء الغرق في عسل النفط، وهي تشكل حسب قوله حوالي 90 % من الفرص والثروات الحقيقة والمتوقعة، مثل السياحة، التي تشمل نيوم الحلم، ومشروع البحر الأحمر، والقدية، والمناطق الأثرية (مثل العلا) فضلاً الحج والعمرة .. إلخ.. وينوه سموه أن، في مجال السياحة، هناك 230 مليار تصرف خارج المملكة، وقد تصبح 400 مليار في 2030 إن لم نتدارك الأمر. ونذكر هنا مشروع توليد الطاقة الشمسية الذي وقعه الأمير مع سوفت بنك في نيويورك وسيكون أكبر مشروع من نوعه في العالم وسيحقق عوائد لا تقل عن 40 ملياراً للخزينة السعودية سنوياً. وفِي مجالات الطاقة لا يغيب عن البال المشروعات والاتفاقيات هذا فضلاً عن توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات تقنية وبحثية مختلفة (جامعة MIT مثالاً) تهدف إلى توطين الصناعات، وبالمناسبة فقد كان من أهداف الجولة دعم وتعزيز مشروع توطين 50 % من الصناعات العسكرية. وكل هذه الأفكار والأهداف أنما ترمي في النتيجة إلى توسيع رقعة المحتوى المحلي الذي، فضلاً عن عوائده الاقتصادية، فهو سيخلق مئات الآلاف من الوظائف للشباب. ولابد هنا من الإشارة إلى الاتفاقيات في مجال الاستثمار في التقنية (المثال: سيسكو، قوقل، وغيرهما) والتقنية اليوم هي بوابة المستقبل والرؤية 2030 توليها أهمية كبرى. المحور الثاني: موضوع التخصيص وطرح النسبة المعلن عنها من أرامكو قريباً المحور الثالث: صندوق الاستثمارات العامة الذي، نتيجة لكل هذه الأفكار والاستراتيجيات، سيُصبِح أكبر صندوق في العالم بلا منازع، فسمو ولي العهد يذكر أن موجوداته ستكون فوق 2 تريليون دولار، 50 % من موجوداته ستستثمر في الداخل والباقي سيستثمر في الشركات الناشئة في مختلف أنحاء العالم. جولة سمو ولي العهد كانت، بكل هذه الأشياء، تأكيداً على موقع المملكة الثابت على خريطة العالم الاقتصادية وبالتالي السياسية، وكانت إعلاناً لشعبه بمستقبل باهر بالنفط ومن دونه، وقد ردد سموه في غير مناسبة أنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء من دون أن يقف خلفه شباب بلاده وأهلها كلهم. البعد الاجتماعي والثقافي: قبل أن يقوم سمو ولي العهد بجولته كان قد شرع في اتخاذ عدد من القرارات والإجراءات الشجاعة والسريعة في بلاده لتهيئة بنية اجتماعية وثقافية اعتبرها الناس في الداخل والخارج «ثورية» بالمعنى الإيجابي للمصطلح، وأنا شخصياً سميتها في إحدى تغريداتي «زلزالية» أما سمو ولي العهد فقد سماها هو فيما أذكر مشروع بناء «معايير اجتماعية وثقافية جيدة أو تنافسية». وبعد أن اطمأن إلى نجاعة ما أنجز على هذا المستوى قام بالجولة، وقال للعالم نحن تغيرنا إيجابياً، وأصبح المواطن السعودي «يعيش حياة طبيعية» منقحة مما ليس من الثقافة الأصيلة الصافية للمجتمع، وهو - أي المجتمع - في هذه الحال قابل للتعايش والتفاهم والتعاون مع الآخرين، فهو فضل أن يتخذ صيغة لحياته تلائم العصر الذي نعيشه ونريد أن ننافس فيه، ولا شك أن مجتمعنا هكذا سيكون أكثر قبولاً «للاختلاف» والتعدد والتنوع، وسيكون جاهزاً لاستقبال 50 مليون سائح أجنبي في العام 2030 كما تتوخى الرؤية، وسيرحب بالمستثمرين. من الشركات الكبرى والناشئة، وسيجد هؤلاء بيئة استثمارية منضبطة مشجعة، وسيجد أطفالهم وأسرهم مجتمعاً متسامحاً وطيباً وكريماً مستوعباً لاختلاف الثقافات. قال الأمير للغرب: نحن مكّنا المرأة، ومنحناها الكثير من حقوقها وما زلنا نسير في هذه الطريق. نحن وقعنا اتفاقات مع أهم الجامعات في العالم للمساهمة في تطوير التعليم لإعداد الكوادر الشابة التي ستنهض بالتنمية وستساعد الشركات المستثمرة على تحقيق أهدافها، ونحن شجعنا الترفيه والثقافة والفن والموسيقى والسينما والمعارض والمهرجانات والمسرح والأوبرا لكي تقوم شراكاتنا التنموية معكم على شروط الاستدامة وليس العقود المؤقتة أو محددة المدة، نريد للأموال المستثمرة أن تقيم وتنمو في بلادنا ليستفيد الطرفان. كان يعلم سموه أنه بغير هذه القرارات والإجراءات «الزلزالية» لن تتحقق البدائل التي تتوخاها الرؤية 2030 . وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي أيضا ً كان أول ثمار الجولة الميمونة التي بشرت بما جرى ويجري في المملكة تحسّن «الصورة الذهنية» عن السعودية والسعوديين، وقد قلت في لقاء تليفزيوني قبل أيام إن ما تحقق في هذا الجانب لا تستطيع أن تنجزه ملايين الدولارات.. وقد ساعد الأمير في ذلك أنه قرن القول بالفعل فكانت الصدقية في توجهه للمجتمعات الغربية بالغة التأثير الى جانب ما يتمتع به من كاريزما عالية ، وما ينطوي عليه من إيمان حقيقي بما فعل و يفعل. الخاتمة: في الأبعاد الاستراتيجية الثلاثة التي أقمت عليها مقاربتي لجولة سمو ولي العهد ظهر لنا جميعاً، من خلال التغطيات الصحفية والإعلامية، العدد الهائل للاتفاقيات الضخمة التي أبرمها سموه مع كبرى الشركات في العالم، وهي تلخص «المفتاح» الاستراتيجي للجولة برمتها أعني «البحث عن شركاء ينخرطون في العجلة المتسارعة للنمو في البلاد» ولا حاجة لأن نضيف أهمية ما تحقق على مستوى دعم وترسيخ علاقات المملكة مع أصدقائها في العالم، وبالتالي رفع مستوى التنسيق معهم في ما يتصل باستقرار المنطقة وأمن العالم الذي لا ينحصر في محاربة الإرهاب ولكن يشمل أيضاً ردع أشرار العالم وناشري الفوضى في جنباته وأنحائه، وهنا ينبغي أن نشيد بالاتفاقيات العسكرية التي شملت كل أقطار الجولة، فالطموح التنموي المستدام يحتاج إلى قوة رادعة تحميه وتقهر خصومه وأعداءه. Your browser does not support the video tag.