لا يُمكن لقارئ مهتم بحال النقد وما ينطوي عليه من دراسات نقدية أو مقالات تشتبك مع النصوص وتجادلها، أو ما يجيء على أثره من نقد النقد في بلادنا، إلا أن يأسى على تحول ساحاته إلى معارك شرسة بين النقاد، الذين لم يفتأ أحدهم من ترديد المقولات التي تدعو إلى تحمل الناقد الذي يبني نقده على منهجٍ وأسلوبٍ علمي، ولا يبتغي من ذلك إلا رجاحة القول وعلو شأن الأدب، من خلال التنبيه على ما يتصيده من ملاحظات قد تُخل بالمتن أو التوثيق في حالات التأكيد أو النفي! وبالرغم من ذلك الحشو المبتذل في العبارات التي يسوقها النقاد ولا تنفك عن طلب الهدوء والتعاطي مع الرأي الآخر (بأدبٍ جم) من قبل الكُتاب، والدعوة إلى تقبل نقدهم بصدر رحب بعيداً عن (الشخصنة). وتكمن المفارقة في أن النقاد أنفسهم أضيق الناس صدوراً بما يتلقونه من التعقيب، بل إن بعضهم لا تكاد أن تتسع نيّته لما يتداوله زملاؤه النقاد حوله، إلا ويستشيط غضباً وينقل ما يتلقاه من تعقيبات وآراء إلى ميادين المبارزة اللغوية، وساحات التنابز بالألقاب، ليكشف بذلك جانباً من جوانب شخصيته أمام القراء. بافقيه أوقد جذوة النار ولم يصلَ لهيبها! ولعل معركة الجدل التي دارت بين الدكتور محيي الدين محسب والناقد السعودي حسين بافقيه قبل عامين تقريباً، تعد واحدة من المعارك النقدية التي يجوز تسميتها بأي اسم آخر غير مصطلح (النقد) حتى لا يزج بالمفردة الأخيرة في ذلك الصراع الذي احتدم من لا شيء، وكان يمكن تجاوزه بأسهل الطرق وأقلها وعورة، ودون الخوض في أمور لا ترفع من شأن المرء إلا أن تهزمه. فقد كتب الأخير مقالاً في السادس من رمضان لعام 1437ه في صحيفة مكة بعنوان «سعاد المانع الرائدة المجهولة للنقد الألسني» أشار فيه إلى تفرد المانع بالريادة في النقد، فعقّب عليه الدكتور محيي الدين محسب في مقال نُشر في ذات الصحيفة في الرابع عشر من رمضان ينتقد فيه إعراض بافقيه عن الإشارة إليه كونه صاحب الإيماءة الأولى لتفردها بالريادة. ومن هنا تحول النقد إلى معركة مؤذية للقراء الذين رأوا أساتذتهم ينزلون إلى منازل لا تليق بأقلامهم، بعد أن بلغا من المعرفة والعلم عتياً. فبدلاً من تبادل الآراء ودمغ الحجة بالحجة، تحولت هذه المساجلات النقدية إلى سيل من الاتهامات التي تبادلها الطرفان دون توطئة أو مقدمات، بل يمكن للقارئ أن يلحظ تصاعد وتيرة الشتائم التي خفضت من مستوى الحوار إلى أدنى مستوياته بشكل غريب. فقد كتب بافقيه معقباً على رد الدكتور محيي الدين بمقال عنونه بالآتي (سيرة مختصرة لناقد شنطة) مستعيراً بذلك الوصف الذي أطلقه الناقد السعودي منصور الحازمي قبل ردح من الزمن على بعض النقاد. وذهب بافقيه إلى تفنيد حجج «محسب» الذي يرى نفسه صاحب الأسبقية بالقول: إن ما طرحه لا يعدو كونه تلخيصاً، ولا يمكن أن يرتقي إلى درجة الدراسة التي تستحق أن تذكر أنها جاءت على سبيل الإيماء، فاتحاً النار عليه حين كتب له في ذات المقال: «ومعظم ما في كتابه «ملخصات» صحفية، ضمَّنها بعض نتاجه، في المدة التي اتصلت أسبابه فيها بصحيفة اليوم، بالدمام، ومن بينها «تلخيص» لكتاب «سيفيات المتنبي» لسعاد المانع، كان قد نشره سنة 1404ه. كل ذلك صحيح، أما غير الصحيح فدعواه العريضة أنه «نبَّهني» إلى هذا الكتاب، وإلى «قيمته التاريخية والعلمية في سياق حركة النقد الحديث في المملكة»، وهذا افتراء، لأنه ليس في «تلخيصه» أي إشارة إلى قيمة الكتاب في حركة النقد الحديث في المملكة! ولا أدري كيف «نبهني» إليه؟ ألأنه قدم «تلخيصاً» عنه في صحيفة اليوم عام 1404ه، ثم لا شيء، فظن أنه ليس لأحد، مهما كان من المشتغلين بالنقد والثقافة، أن يعرف هذا الكتاب إلا من جهة «التلخيص» الذي أنشأه محيي! وليعرف محيي أن مقالي المنشور في هذه الصحيفة جاء في تدرُّج له منطقة، حيث بدأت بحركة النقد الألسني في جدة، فلما انتهيت من جدة شرعت أكتب عن النقد الألسني في الرياض، وبعد أن أخلص من الرياض، أشرع في الكتابة عن النقد الألسني بمكةالمكرمة، وأنا في كل ذلك لم تكن غايتي التي أرمي إليها «تلخيص» كتاب - فهذه صناعة لا أجيدها - وإنما غاية ما أردتُه أن أنزل سعاد المانع منزلتها التي تستحقها في ثقافة هذه البلاد، وأنها الرائدة الأولى «المجهولة» للنقد الألسني في المملكة - وهذا ما لم يهتد إليه محيي في «ملخَّصه» الذي نشره في شبابه، ولم يَهْتدِ إليه في كهولته ولا في شيخوخته». وقد أشار إلى تناقضه بالمنطق نفسه بالقول: «ولو سرنا على هذا الرأي الخاطل العجيب لجاز لي أن أطالبه، حين كتب مقالة عن كتاب الدكتور عبدالمحسن القحطاني «بين منزلتين»، بذكر اسمي! لأنه يعلم، كل العلم، أن كاتب هذه السطور، كان قد ألقى ورقة مطولة عن كتاب «بين منزلتين» في المنتدى الذي يشرف عليه الدكتور القحطاني نفسه، فلِمَ يا محيي لم تذكر اسمي، وقد سبق مقالي مقالك بسنتين اثنتين؟!. وإنه مما يشده القارئ في تلك الملاسنة التي حمى وطيسها آنذاك هو تعليقات القراء الممتعضين مما قرؤوه حتى أن بعضهم راح يعبر عن دهشته من محاولة الأساتذة الحصول على أسبقية «لفظة» كان بالإمكان أن يكتفى بالإشارة إليها أو الصمت عنها. وبعضهم استاء من حال النقد الذي جعلهم يتجاوزون النصوص إلى الشخوص. وفي الخامس عشر من ذات الشهر والعام كتب بافقيه مقالاً آخر بعنوان « شكراً محسب أن جعلتني أكشف زيف بضاعتك» قال فيه ما نصه: «والحق أنني حزين كل الحزن إلى ما آل إليه محيي الدين محسب، في محنته هذه، وما كان ليسرني ويفرحني ما انتهى إليه حال رجل درَّس في جامعات بلادنا في أربعة أزمنة، وما كنت لأريد أن يكون حاله معي مصداقاً للحديث الشريف «المتشبِّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبَيْ زور»، وعسى أن يظهر القارئ الكريم على «تلخيصه» لكتاب سعاد المانع، ليعرف، آنئذ، مبلغ علمه، وعسى أن يهتدي محيي فيعرف قدره، ويدرك أن الثقافة تميز الخبيث من الطيب». وإني حزين، كذلك، لأنا اغتررنا بمحيي الدين؛ اغتررنا به في جامعاتنا، واغتررنا به في مؤسساتنا الثقافية! نعم أقول: اغتررنا به، فهذا الرجل الذي لا أعرف كيف مُكِّن من التدريس في اثنتين من جامعاتنا، ومن قبل في كلية المعلمين في الدمام، ما كان قميناً أن ينال من الحظوة بعض ما نال، ولعله حين نَفِسَ عليَّ ما هداني الله إليه، فجعل يفتش في دفاتره القديمة، رجاء أن يجد «تلخيصاً» يدَّعي به مجدًّا - لعله فتَّش، كذلك، في موقعه أستاذاً وعميدًا في جامعة المنيا، في بلاده، وأحسب أيها القارئ العزيز أنه لا أنا ولا أنت في حاجة إلى أن نذكر الأستاذ الدكتور محيي الدين محسب، الذي انبرى يعلِّم الشرفاء «الأمانة» - بما كتبه زميل له في كلية دار العلوم بجامعة المنيا، أحسبه يعرفه حق المعرفة، ولن ينساه أبد الدهر، أعني الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل، حين نشر غير مقالة في الصحافة المصرية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وفي موقعه على الشبكة، تظهرنا، إذا قرأناها، على أننا خُدِعْنا به حين استقبلته جامعاتنا، وخدعنا به حين اتصل بأنديتنا الأدبية، وأخشى أن تخدع به جوائزنا المحلية والعالمية، وما ذلك لموقف منه، فقلوبنا مفتوحة لكل إخوتنا العرب، ولكن لأن ما كتبه الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل عن محيي الدين محسِّب، أقلُّ ما فيه أنه يطعن في شرفه الأكاديمي». ولا أظن أن الحديث الذي ساقه بافقيه هنا بحاجة إلى توضيح أو تفسير أو قراءة، فهنا يتضح للجميع إلى أي مدى وصل إليه حال النقد، وربما لو أطلع أحدنا على ما يدور في ساحات التواصل الاجتماعي من مبارزات نقدية بين كبار النقاد وبعضهم (أساتذة) في أعرق الجامعات لولى فراراً ومُلئ رعباً. ولكن للقارئ أن يتفهم ما قد يدور في مواقع التواصل من انفلات، لخلوها من رصانة الصحف، ولكن الغريب المريب هو انحدار المستوى النقدي إلى هذه اللغة الهجومية الحادة، رغم تعدد الحلول والاحتمالات في اليد، والتي كان من الممكن أن تسجل لنا كتاريخ نقدي يوضح مدى المكانة النقدية والرصانة العالية التي بلغها النقاد. وإنه مما يؤخذ على بافقيه في مقاله هذا هو قوله:» فقد ينبغي أن نكاشفه بما لم نكن - علم الله - لنرغب في مكاشفته به، فمحيي، في خير أحواله، ما هو إلا «ناقد شنطة». وقد رد محسب على ذلك بمقال في ذات الصحيفة قال فيه: « يا أخي الفاضل.. ليكن كل ما كتبته في حياتي العلمية هراء لا قيمة له.. فهل كل بني وطنك في الجامعات والمؤسسات الثقافية بلهاء لا يميزون الخبيث من الطيب لأظل بينهم ستة عشر عاماً ولا يكشف أحد منهم - سواك أنت - أني لا أقدم إلا (هراء)؟! ثم: هل كل آراءك التي كانت تشيد بما أكتب، والتي كنت تدفعها إليّ كتابة أو مشافهة، هل كنت تبديها تحت ضغط (كرم الضيافة)! وإني سأستدعي نصاً واحداً لا يزال على رسائل جوالي .. رسالة منك بتاريخ 19 /3 /2015 قلت لي فيها: «حمداً لله على السلامة. كان لقائي بك قصيراً، لكنه بذر في عقلي وعياً ورؤية ما أحوجني إليهما. شكراً لأستاذنا العالم والمفكر الجليل على أن خصصتني بهذا الفضل». وللعلم هذه الرسالة جاءت إليّ بعد أن غادرت المملكة إلى مصر. فهل كانت تلك الرسائل تحت ضغط كرم الضيافة؟! قد تقول: إن ذلك معتاد في المجاملات بين الناس. ولكن لا أظن أن وصفك لنفسك بأنك كنت ساكتاً عن الكلام والفضح والكشف تحت بند (كرم الضيافة) ينسجم مع مثل هذه الأحكام (أستاذنا العالم الجليل الذي زرع في عقلك وعياً ورؤية ما أحوجك إليها)!». ثم أخيراً، جاء رد الدكتور سيد علي إسماعيل على مقالة بافقيه المشار إليها في ذات الصحيفة حيث أورد ثلاث شهادات كتب فيها: «إلى كاتب هذا المقال: قرأت ما كتبته، ولا أريد أن أرد على ما فيه؛ حيث إنه لا يستحق عناء الرد!! ولكن هناك ثلاث شهادات لابد من ذكرها: الأولى، هو الزج باسمي والادعاء بأنني هاجمت الدكتور محيي واتهمته بعدم الأمانة العلمية .. إلخ ما جاء في المقال يخصني. وشهادتي على هذا الإدعاء: إنني لم أنشر حرفاً واحداً ضد الدكتور محيي طوال حياتي كلها، وما كتبته ونشرته عن السرقات العلمية، كانت تخص آخرين وفي الكلية نفسها. أما شهادتي الثانية، فتتمثل في الآتي: إنني عاصرت ستة عمداء في الكلية منهم أستاذي أ. د. إبراهيم عبد الرحمن .. ورغم ذلك أقول: إن الدكتور محيي كان أفضل عميد مرّ على الكلية حتى الآن .. إدارياً وعلمياً ونزاهة وشرفاً. أما شهادتي الثالثة، فتتمثل في أن الدكتور محيي يُعدّ من أهم أساتذة الجامعات المصرية وأعلمهم في مجال علم اللغة!! هذه شهادتي والله على ما أقول شهيد». ولعل خير ما ذهب إليه بافقيه هاهنا هو إعراضه عن الرد، وتوقفه عن تبادل الاتهامات، والاكتفاء بهذا القدر من (الحالة) التي لا يتمنى المرء بلوغها حين ينقد أو يُنتقد. ومن هذا المنطلق يمكن القول ملء الفم: (اللهم لا تجعلنا ناقدين ولا منقودين). حسين بافقيه محيي الدين محسب Your browser does not support the video tag.