إن شر الانحراف عن الطريق الوسط يتفاقم ويتعاظم حتى يؤول بصاحبه الحال إلى استباحة الدماء وتكفير المجتمعات, وليس كل الغلاة أو الجفاة يتفهم الوعظ, ويرجع بالملام.. قد يتشابه اليوم بالأمس في كثير من جوانبه، وتتلاقى أطراف واقعه بكثير مما كان واقعًا آنذاك، مع اعتبار الفروقات الشكلية زمانًا ومكاناً، وقلة وكثرة، وأعني بالأمس عهد انطلاقة الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وهو الزمن الذي يجب الرجوع إلى حيثياته عند كل إشكالية؛ ليكون مرجعًا في الإصلاح، ومرتكزًا في التجديد، ومما يتحتم علينا مناقشته وطرحه، في هذه المرحلة التي تشكل قلقا لكثير من الشعوب المسلمة، هو كيف ننأى بالمسلمين عن شطح الغلاة وبعد الجفاة إلى الطريق الوسط؟ وهو أمر يحرص عليه نظريّاً كل مسلم, إلا أن قليلاً من الناس من يستطيع الأخذ بزمام الأمور عمليّا لتحقيق هذا الهدف! هؤلاء القليل هم من يحق لهم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله اقتداءً يترجم تطبيق المفهوم الفقهي لبعض المواقف النبوية التي سلك فيها النبي صلى الله عليه وآله مسلك فرض السماحة والاعتدال والوسطية, دون أدنى تساهل يفهم منه جواز التنطع والغلو أو الجفاء والبعد, فحين دخل عليه أولئك النفر الذين اشتهرت قصتهم, وسألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها, نزعهم حب المغالاة في التدين, فقالوا «وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله» فقال أحدهم «أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا وقال آخر أنا أصوم الدهر، ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني». فهذا النفي منه صلى الله عليه وآله عن نسبة الغلو إلى دينه, هو عين ما يتطلب من ولاة أمور المسلمين قوله, وما كان لأولئك النفر أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وآله بعد أن سمعوه, ولو حصلت المخالفة فرضًا لكان الجزاء أسرع إليهم من طرف أعينهم, وكيف لا؟ وهو صلى الله عليه وآله في موقع نشر الدين وإبلاغ الرسالة, وقد احتاج لذلك اللين والشدة, والثواب والعقاب, فما حكم بالعدل صلى الله عليه وآله إلا بعد أن أرعب الظالمين وأراهم أنه لا طريق لهم إلا ترك الظلم, فكم هي النفوس التي لا يزعها الوعظ والتذكير عن غيها وتجد في السلطان حاجزاً وحائلاً لها عن ظلم الآخرين وانتهاك المحارم, ولله در ابن المبارك حين أنشد: اللهُ يَدْفَعُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً عَنْ دِينِنَا، رَحْمَةً مِنْهُ وَرِضْوَانًا لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وليس ذلك في دفع المظالم وصيانة الحرمات فقط, بل إن هناك شيئًا أعظم من ذلك وهو الحفاظ على سماحة ووسطية الإسلام, وليس ذاك أولى من هذا باهتمام الولاة والدول, فإن شر الانحراف عن الطريق الوسط يتفاقم ويتعاظم حتى يؤول بصاحبه الحال إلى استباحة الدماء وتكفير المجتمعات, وليس كل الغلاة أو الجفاة يتفهم الوعظ, ويرجع بالملام, بل بعضهم يحتاج ما احتاجه صبيغ حتى يعدل عن اعوجاجه, وقد قال بعض الحكماء « خوفوا المؤمنين بالله, وخوفوا المنافقين بالسلطان, والمرائين بالناس» فكل جماعة ولها أسلوب تنزجر به, ومعالجة السلطان لرعيته بما أتيح وأبيح له هو اقتداء فعلي بالنبي صلى الله عليه وآله , وقد يفصل ذوو السلطان في كثير من الشائكات بين الناس, ويرفع الله على أيديهم كل خلاف, ويدفع بهم ما يشوه جمال هذا الدين, وفي الأثر «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ». هذا، والله من وراء القصد.