دين الإسلام دين سماحة، ويسر، في الكتاب الكريم: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. ولو شاء الله لأعنتكم. والله يريد أن يخفف عنكم. وفي السنة المطهرة: يسروا ولا تعسروا. إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. إياكم والغلو. هلك المتنطعون. وغير ذلك من نصوص تؤصل هذا وتقرره. جرني إلى الحديث عن يسر الدين وسماحته ما لمحته من بعض الأحبة الكرام، الذين لا نشك أنهم يريدون النصح، ويحرصون على أن لا يقع الناس في المحظور، ولكن الحرص المخالف للسنة، الذي لا يسير على نهجها ضرره أكثر من نفعه وكما قيل: إني أرجو من أحبتي الدعاة والوعاظ، ومن يحرص على تعليم الناس وتفقيههم في دينهم أن يسلكوا بهم طريق اللين واليسر، وهو الذي وجّه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم به رسوليه معاذاً وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما: بشِّرا ويسِّرا، وعلِّما ولا تُنفِّرا، وتطاوَعا. رامَ نَفَعاً فَضَرَّ مِن غَيرِ قَصدِ وَمِنَ البَرِّ ما يَكونُ عُقوقا ولا ريب أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وليس بخافٍ على الناظرِ في سيرته عليه الصلاة والسلام رأفته بالعصاة، وحلمه عليهم، بل حتى مع المنافقين، لكنه كان يغضب ويشتد غضبه مع المتشددين، كما في حديث الرهط: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني. ودخل النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فإذا حَبْلٌ ممدودٌ بينَ الساريتيْنِ، فقال: ما هذا الحَبْلُ. قالواْ: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فإذا فَتَرَتْ تعلَّقَتْ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحدكم نشاطَهُ، فإذا فَتَرَ فليَقْعُدْ. وكان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه، وذات ليلة صلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت يا فلان فقال ما نافقت فأتى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول اللهِ وإنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة فقال يا معاذ أفتان أنت أفتان أنت اقرأ ب (سبح اسم ربك الأعلى) (والليل إذا يغشى) يا معاذ لا تكن فتاناً فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر. ولست أريد الحصر ولكني أريد المثال، وأخلص من ذلك إلى أن التشديد قد يأتي من حيث لا يريد الإنسان ذلك، بمعنى أنه يريد الخير، ويحرص على الطاعة، ويحب أن يكون تقياً ورعاً، وقد يدفعه إلى ذلك الخشية، والرغبة فيما عند الله. ولكن هذا الطريق وعر وقد يتيه فيه السالكون، إذا لم يهتدوا بهديه صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا فإني أرجو من أحبتي الدعاة والوعاظ، ومن يحرص على تعليم الناس وتفقيههم في دينهم أن يسلكوا بهم طريق اللين واليسر، وهو الذي وجّه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم به رسوليه معاذاً وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما: بشِّرا ويسِّرا، وعلِّما ولا تُنفِّرا، وتطاوَعا. ومن أهم سبل التيسير أن لا نضرب الأمثلة التي يعجز غالب الناس عنها بل وربما شكوا في صحتها لما في بعضها من مبالغات، كقولهم إن سليمان بن مهران لم تفته تكبيرة الإحرام سبعين سنة. وقولهم إن فلانا كان يختم القرآن في ليلة، أو في ركعة، أو لم يأكل بصلاً منذ حفظ القرآن، أو يصلي الفجر بوضوء العشاء. أو لم يصعد سقف بيت وأمه تحت ذلك السقف. وغير ذلك من قصص تثير الإحباط، وتنفر الناس من الدين، فتراه مشغلاً للناس عن حياتهم الطبيعية، والعكس هو الصحيح، إذ إن ما ذكرته من أمثلة دليل على أن الدين جاء مراعياً لأحوال الناس ودنياهم، يقوّمها ولا يهدمها، ولا يطلب منهم التبتل والرهبنة، وفي حديث حنظلة أنَّهُ مرَّ بأبي بَكْرٍ وَهوَ يَبكي، فقالَ: ما لَكَ يا حَنظلةُ؟ قالَ: نافَقَ حنظلةُ يا أبا بَكْرٍ، نَكونُ عندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ كأنَّا رأيَ عينٍ، فإذا رجَعنا إلى الأزواجِ والضَّيعة نسينا كثيرًا قال فواللَّهِ إنَّا لكذلِكَ انطلِقْ بنا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ فانطلقْنا فلما رآهُ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: ما لَكَ يا حنظلةُ؟ قالَ: نافقَ حنظلةُ يا رسولَ اللَّهِ، نَكونُ عندَكَ تُذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ كأنَّا رأيَ عينٍ، فإذا رجَعنا عافَسنا الأزواجَ والضَّيعةَ ونسينا كثيرًا: فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: لَو تدومونَ على الحالِ الَّتي تقومونَ بِها من عندي لصافحَتكمُ الملائِكَةُ في مجالسِكُم، وفي طرقِكُم، وعلى فُرُشِكُم، ولَكِن ياحنظلةُ ساعةً وساعةً ساعةً وساعةً. فمن ذا يزعم أننا أفضل من أولئك العظام الذين صحبوا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا ينهلون من معينه مباشرة، ثم نجد فيهم من يسرع في الخروج من المسجد بعد السلام مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل سوى ركعتين، وسلم ساهياً. ففي الحديث: وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي السنة توجيهه صلى الله عليه وآله وسلم للأمة جميعاً، وأولهم أصحابه، رضي الله عنهم: إذا ثُوِّبَ للصَّلاةِ فلا تأتوها وأنتُم تسعَونَ. وأتوها وعليكُمُ السَّكينةُ فما أدرَكتُم فصلُّوا. وما فاتَكم فأتِمُّوا. فإنَّ أحدَكُم إذا كانَ يعمِدُ إلى الصَّلاةِ فَهوَ في صَلاةٍ. وفي رواية: إذا أقيمت الصلاة. وفي أخرى إذا أتيتم الصلاة. وفي السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن نام عن صلاةٍ أو نسِيها فلْيُصلِّها إذا ذكَرها ثمَّ تلا (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). وخلاصة الأمر أن المبالغة في تصوير العبادة، والزهد قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، ولعل هذا من أسباب نفرة الناس من الدين في هذا العصر، حتى بلغ ببعضهم حدّ الإلحاد. إذ يصعب على أكثر الناس أن لا تفوتهم تكبيرة الإحرام عمرهم كله، خاصة مع كثرة المشاغل هذه الأيام وزحام الطريق، وارتباط الناس بأوقات معينة في العمل والمرابطة العسكرية، وغير ذلك. وفي كتاب بهجة المجالس لابن عبدالبر قال عبدالله بن مسعود: "أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي". وقال أيضاً: إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها. وفيه قال أرسطو طاليس: ينبغي للرّجل أن يعطي نفسه لذّتها في النهار ليكون ذلك عوناً لها على سائر يومه. وفيه أن في صحف إبراهيم عليه السّلام: "وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعةٌ يناجي فيها ربّه، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يخلّي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجمل، فإنّ هذه الساعة عونٌ له على سائر السّاعات". والله من وراء القصد.