قارئ رواية "امرأة الجزيرة السوداء" للمؤلفة ماريا فاس، والصادرة عن دار الحوار، لن يجد في الرواية حكاية شديدة التشويق، وليست هناك حالة آسرة من الدرامية التي تجعل القارئ يتلهف ويتنبأ بما قد يحدث. إن ساردة الرواية تتعامل مع سردها ببطء وبحالة هادئة جداً، حتى لكأن ذلك البطء امتدّ إلى طريقتها في استدعاء الأحداث من ذاكرتها. سيشعر القارئ أنها تروي بعض التفاصيل على طريقتها. تفاصيل من طفولتها ومراهقتها ثم من مرحلة شبابها، لكن تلك التفاصيل تأتي على شكل ومضات، فهي تتداعى عن ذاتها وعمّا كانت ترصده، في ذلك المنزل الذي يقع في الجزيرة السوداء، بطريقة هامسة. وبذلك يشعر القارئ أن ذلك التداعي لا يتجه إليه، ولا يأخذ صفة البوح المعلن، بل كأنه موجه أكثر إلى ذات الساردة. للمرة الثانية يتم استحضار الشاعر بابلو نيرودا روائياً، فالمرة الأولى كانت من خلال رواية "ساعي بريد نيرودا" للروائي أنطونيو سكارميتا. لكنه، وللمرة الثانية في الرواية، يظلّ في مرتبة الظل، ففي "ساعي بريد نيرودا" استأثر الساعي ماريو خيمينيث بالسرد، وكان بابلو نيرودا حاضراً من خلال سطوته الشعرية كمبدع وملهم لعاشق أراد أن يصبح شاعراً، وقد أخذه الوهم إلى أن يعتقد أنه أصبح صديقاً للشاعر نيرودا. أما في رواية الجزيرة السوداء فإن البطلة "إليسا" استحوذت بحالة التداعي عن ذاتها وأفكارها على الرواية وجعلت من بابلو نيرودا شخصية تظهر في النص عبر خطفات محددة، بل إن زوجته " دليا" كانت أكثر حضوراً منه. إذا كانت الأم قد تعرضت للظلم من بابلو نيرودا، وهو بدوره قد تخلى عنها كعشيقة وجعل منها خادمة في المنزل دون أن يعلن عن أبوته ل"إليسا"، فإن الابنة أيضاً تخلت عنها عندما تركتها تغادر المنزل وكذلك عندما مرضت المرض الأخير قبل وفاتها. لذا فإن "إليسا" تتجنب الملامة الصريحة لبابلو نيردو،ا ولكن القارئ يلمس حالة عدم الرضا عن ذلك الشاعر الأسطوري، فأغلب المشاهد الذي تقدم بابلو هي المشاهد الحسية مع حبيباته، وإليسا تردد قول عشيقته "دليا": *ماذا ترتجي من رجل يرتدي منامة حريرية؟. لذا، لا تمجيد ولا تبجيل هناك، لاسم بابلو نيرودا، في هذه الرواية. وإذا كنّا، من خلال بوح "إليسا" وتداعياتها، نلمس تدرجها في الحديث عن نضوجها وكيف كانت تلصص على تفاصيلها الذاتية حتى وصلت إلى مرحلة المكاشفة، فإننا، في المقابل وبشكل موارب، نلاحظ أنها، على الجانب الآخر، تتدرج في الحديث عن تلصصها على الكتب في مكتبة نيرودا وهذا التلصص قادها إلى أن تصبح قاصة. لعلّ هذا النضج الإبداعي هو مقابل للنضج الجسدي. الأمر الآخر، كون إليسا قد انحازت إلى كتابة القصة، فكأنها بهذا تريد أن تأخذ مساراً حياتياً وإبداعياً مغايراً لذاك الذي عُرف به بابلو نيرودا. إن رواية "امرأة الجزيرة السوداء"، رغم صغر حجمها، تحرضّ على قراءة متمهلة مشابه لبطء السرد الذي تسرد فيه "إليسا" تفاصيل بوحها، ليس على طريقة البوح الأنثوي الغاضب أو المباشر بل ذلك البوح المقنن الذي تمزج فيه قدرتها الإبداعية في كتابة القصة برؤيتها لحياتها وحياة المقربين منها في ذلك المنزل المعزول في الجريزة السوداء.