من المشاكل المزمنة التي أواجهها في هذه الزاوية محاولة قول كل شيء في نطاق (500) كلمة .. فحين تؤلف كتابا يكون المجال أمامك مفتوحا لقول كل شيء والتوسع في أي شيء (وإن لم تكفك صفحات الكتاب يمكنك اصدار أجزاء تالية والاستمرار بالثرثرة بلا نهاية) . أما حين تكتب في صحيفة يومية فيتوجب عليك قول كل شيء ضمن مساحة مغلقة - وبدون إنهاء المقال بجملة «سنكمل حديثنا غداً» !! وحين أجلس للكتابة (وتتداعى الأفكار في رأسي كالتسونامي) أنتبه متأخرا إلى أنني كتبت 700 أو 800 أو حتى 1000 كلمة ولم ينته المقال بعد . وهنا تأتي المهمة الصعبة - التي قد تستغرق أكثر من الكتابة نفسها - ماذا أحذف؟ وماذا أبقي؟ وكيف لا أخل بسياق المقال!؟ .. وفي أحيان كثيرة أتلقى اتصالاً - بعد نشر المقال - من «أكاديمي متخصص» يناقشني بطريقة : للأسف فاتك كذا وكذا أو لم توضح كذا وكذا أو لم تتوسع في كذا وكذا (وغالبا ما تكون كذا وكذا قد كتبت فعلاً ولكنها حذفت لاحقا بدافع الاختصار) ... فقبل فترة مثلا كتبت مقالاً بعنوان «شرقستان وغربستان» تحدثت فيه عن سر كلمة ال«ستان» في أسماء بعض الدول .. وحينها قلت إنها كلمة فارسية الأصل وتعني «أرض» أو «وطن» . وفي اليوم التالي اتصل بي أكاديمي متخصص معترضا على فارسية الكلمة ومشيراً إلى أن جذورها تعود إلى اللغة الهندوروبية القديمة .. فأجبته بأن الكلمة ماتزال تستعمل في إيران وأن اللغة الفارسية نفسها تعود إلى الهندوروبية الأم (وهو ماذكرته في المقال) . أما التوسع أكثر من ذلك فيخرجنا عن الموضوع ويدخلنا في قضية طويلة عن تشعب اللغات وكيفية تفرعها ( وهو أمر سبق أن كتبت عنه مقالا خاصا بعنوان اللغة الأم ) !!! .. أيضا قبل فترة كتبت مقالاً بعنوان «مشروع راتنبرغ» تحدثت فيه عن وجود مدن كثيرة محرومة من ضوء الشمس بسبب موقعها الجغرافي (مثل بلدة راتنبرغ في النمسا) . وخلال المقال تحدثت بصورة مقتضبة عن الفوائد الصحية للشمس ومخاطر احتجابها عن البشر لفترة طويلة .. ومما قلته آنذاك : إن الغياب المستمر لضوء الشمس يتسبب بآثار صحية سيئة بسبب دوره في مكافحة الكساح وضعف النمو - لدى الصغار - وفائدته في مقاومة نخر العظام وأمراض القلب والشرايين لدى الكبار (....)! وفي اليوم التالي اتصل بي استشاري كبير في أمراض القلب وقال بتهكم واضح (لم أسمع في حياتي، ولم يسمع أحد من زملائي الاستشاريين، بأن الحرمان من أشعة الشمس يسبب أمراض القلب والشرايين) .. فأجبته بنفس الطريقة : إن لم تسمع أنت ؛ فقد سمعت أنا ولكن مساحة الزاوية لم تسمح بالتوسع في هذا الموضوع .. فمنذ أمد بعيد لاحظ الأطباء انه كلما نزلنا جنوبا قلت نسبة الاصابة بامراض القلب والشرايين . فأمراض القلب في نيجيريا مثلا اقل منها في تونس، وفي تونس اقل منها في فرنسا، وفي فرنسا اقل منها في فنلندا ... وحتى وقت بسيط كان الاتهام موجهاً للاطعمة الدهنية والمشروبات الكحولية التي تستهلكها بإفراط شعوب الشمال . ولكن - رغم اهمية هذين العاملين - إلا ان تحييدهما لم يترك غير انخفاض معدل الإشعاع الشمسي الذي يضعف كلما اتجهنا شمالا .. وحتى داخل أوروبا نفسها اتضح ان عدد الوفيات في بلفاست (بسبب انسداد الشريان التاجي) اكبر بنسبة 4,3 من مرسيليا جنوبفرنسا، وان الوفاة بالسكتة القلبية في أسكوتلندا تزيد على انجلترا بنسبة 5,6٪ .. ويعود السبب هنا إلى ان ضوء الشمس يحفز تصنيع فيتامين «دي» في الجلد الذي (غير فائدته المباشرة لنمو العظام) يتشكل من نفس العناصر الأولية التي يتكون منها الكوليسترول المسؤول عن انسداد الشرايين .. وهذا يعني ان التصنيع المستمر لفيتامين «دي» يخفض من تراكم الكولسترول والاصابة بالجلطة وضيق الشرايين !! .. هذه المعلومة اضطررت لحذفها من المقال السابق بدافع الاختصار - في حين أن التوسع بها يتطلب أكثر من مقال - وبالتالي أنصح المختصين بالاطلاع عليها في كتاب: Sunlight,cholesterol and coronary heart (By: E.Hindle, D.S Grimes) disease ... مرة أخرى انتهت ال 500 كلمة ولم أخبركم بكل شيء !!