لعل اهتمام الاوساط الاقتصادية وانشغالها بأمر الميزانية الجديدة بعض الوقت له ما يبرره، كونها الحدث المالي الاهم في كل عام، او هكذا احساس غالبية المواطنين السعوديين، كما انها تعكس توجهات اكبر الاقتصاديات العربية واحد اللعبين الرئيسيين في سوق النفط العالمية. صحيح ان الميزانية مبهرة، وتحمل كل عناصر التفاؤل والامل المخضر، ولكن تفاعلنا مع ميزانية الخير يفترض الا يتوقف عند حد انها اكبر موازنة في تاريخ المملكة وحسب بل يتحتم علينا الغوص في جوفها والعمق في حجم التحدي الكامن في التفاصيل، ومن ابرز ملامح الاساسية لاكبر موازنة يذهب اكثر من نصفها كرواتب لموظفي الدولة انها تسعى لضبط التوازن بين الايرادات والمنصرفات، وتركز بشكل اساسي على التنمية ودعم المشروعات الجديدة وزيادة عدد الوظائف والتقليل من الدين بغية الخلاص منه في اقرب وقت، غير ان الوصول به الى سقف 475 مليار يشكل خطوة مهمة - في تقديري - على طريق التعامل مع هذه القضية الحساسة ذات الابعاد السياسية والاقتصادية المتداخلة، لان الدين العام مازال يشكل تحدياً واضحاً للاقتصاد الوطني مما يستلزم وقفة محاسبة جريئة للتخلص من تبعاته مع ان فائض الموزانة يعطي الامل لمعالجته بشكل نهائي. وما يبعث على الامل حقيقة، هو ان التعامل مع قضية الدين العام اصبح من الاولويات ومن خلال خطوات جادة ومدروسة، وهذا يضيئ لنا افق الرؤية في إمكانية اتساع دائرة الشفافية حتى تدخل في صلب عملية الاصلاح المالي والاقتصادي الجارية بتعمق وفي اطار حزمة من السياسات تضع في حسبانها التزام الدولة بمعدلات معينة من الانفاق لابد من تلبيتها تحت كل الظروف حتى نخرج من دائرة المفارقات بين التقديرات والموازنات الفعلية. حتى وان ادى الامر الى مزيد من الاقتراض. كما ان نمو القطاع الخاص بمعدل مرموق والوصول به الى معدل يتسق مع معدلات النمو السكاني يعطي ضماناً لعدم تراجع المستوى المعيشي للسكان، وهذا احد ابرز التطمينات التي يجب ان تبعث عليها ميزانية عالية منقطعة النظير في بلد يتصدر اقتصادات المنطقة. مبعث التفاؤل لدينا في مقاربة هذه الميزانية ان التظاهرات الاقتصادية والاستثمارية التي تزامنت مع اعلان الميزانية الجديدة، وكذلك انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية تبشر بإمكانية ضخ المزيد من رؤوس الاموال بما يتيح للقطاع الخاص تحقيق المزيد من معدلات النمو المأمولة، والاضطلاع بدور اكثر ريادة في دعم الاقتصاد الوطني والمشاركة في قيادة المشروعات العملاقة في زمن التحولات المهمة وعصر العولمة. نعم.. هذا ما قد يبدو هو الوجه الكامل للموازنة التاريخية ولكن دعونا نتساءل متى وكيف تنفذ هذه الميزانية؟ وهل تمتلك الوزارات الكفاءات الادارية والمالية القادرة على تنفيذها من ناحية الكم والنوع؟ ام ان الامر يتطلب اعادة هيكلة جادة وجريئة للقطاع الاداري في الوزارات، وتغييراً منهجياً في اسلوب الرقابة والتدقيق ومتابعة اوجه الصرف وآليات التنفيذ؟ ثم لماذا هذا التحفظ الشديد في تقدير ايرادات الموازنة الجديدة بما يقل عن منصرفات الموازنة المنصرمة، فحينما وضعنا الايرادات الفعلية بما يقارب الضعف فيما تجاوزت المصروفات الفعلية ما هو مقدر لها بحوالي 80 مليار ريال وجاءت ميزانية عام 2006 لتضع تقديرات للايرادات بأقل من السنة الماضية ومنصرفات اكثر من المنصرفات السابقة في مفارقة لا يجد لها المرء تفسيراً منطقياً، لماذا تكون خططنا في تراجع ونحن نتطلع الى التقدم والبناء؟ فالميزانية مازالت تأخذ الجانب التحفظي فالإيرادات للعام المقبل تقل بمعدل 30٪ عن الايرادات الفعلية التي تحققت العام الحالي، مع ان المؤشرات والتوقعات لا تشير الى احتمال تراجع اسعار النفط بل يتوقع ان تكون اعلى بكثير مما هو مقدر في الميزانية، خصوصاً وان وزير المالية الدكتور ابراهيم العساف صرح بأنه يتوقع تحقيق ايرادات تفوق الارقام المقدرة في الميزانية. وهذا يجعل المخاوف التي جعلت ارقام الايرادات الجديدة بهذا الضمور غير مبررة. ويجعلها تحاصر الخطط باعتبارها المرتكز الاساسي الذي يقوم عليه الاقتصاد. وبرغم هذه التحفظات فإننا نقرأ في الموازنة والتوجه الاقتصادي العام اشراقات مطمئنة فالتوجه لانشاء صندوق الايرادات النفطية يساعد في تحاشي زيادة الانفاق الحكومي بمعدلات عالية قد تضر بعملية الاصلاح الاقتصادي. كما ان التطلع قائم بإحداث اصلاحات ادارية حقيقية في الاداء الاداري لقطاعات الدولة بما يواكب ظروف ومعطيات العصر. واعادة النظر في ادارة المال العام وصولاً الى التوازن بين الموارد المتاحة والمنصرفات وتبني استراتيجية منهجية للتحكم في النفقات والعمل على التحييد التدريجي للنفط وعائداته والتركيز على العائدات غير النفطية، كما ان الواقع يتطلب موازنة تتجاوز مجرد الانفاق على مشاريع الى توجه حقيقي لبناء اقتصاد شمولي يتمثل في نقل التقنية، وايجاد القدرات الوطنية الفاعلة والقادرة على ادارة هذا الاقتصاد. ٭ متخصص مالي