بدأ الإنسان حياته على ظهر البسيطة متوحشّا تقوده غرائزه المتوحشة وحرصه الفطري على البقاء، وفي مسيرة الحراك الإنساني ترقّت البشرية في مدارج الكمال الإنساني لكن الإنسان من حيث هو إنسان لم ينس يوما توحّشه ولم تتوقف غرائزه عن ملاحقته آناء الليل وأطراف النهار. والتاريخ مذ كان رسما قبل أن يتعلّم الإنسان الخطّ والكتابة يشهد على ممارسات الإنسان لوحشيته ضد أخيه الإنسان، منذ الأشوريين والفراعنة واليونان والإغريق والرومان، مرورا بما نال أتباع المسيح عليه السلام من صنوف الأذى الوحشي، ثم محاكم التفتيش التي أقامها أتباع المسيح أنفسهم لمخالفيهم، وصولاً إلى حقب الاستبداد السياسي الإسلامي منذ بني أمية مرورا ببني العباس وليس انتهاء بالخلافة العثمانية، وحين جاء الاستعمار الغربي للشرق أعادت فظائعه وجرائمه للأذهان محاكم التفتيش وحقبتها السوداء، ولم تكن الحكومات التي أعقبت الاستعمار أقل بطشاً منه، بل على العكس لقد كانت أشد منه بطشا وضراوة وطغيانا، ولقد كان الطغيان الوطني أقسى من طغيان المستعمر. ولم يزل إنسان القرن الحادي والعشرين يعاني من صنوف الوحشية والتعذيب الويلات تلو الويلات، ولئن أصبحت حقوق الإنسان اليوم ظاهرة عالمية مدوّية، فإن التعذيب قد أصبح كذلك، ولئن حظيت حقوق الإنسان بالدعم والمؤازرة والتبرير فإن التعذيب قد حصل على كثير من هذا التبرير كذلك، وحسبنا اليوم أن نلقي نظرة على المشهد العالمي الصاخب بالديموقراطية وحقوق الإنسان لنكتشف كم يتعذّب الإنسان بيد الإنسان، ويشقى الأخ بأخيه والقريب بقريبه، ناهيك عن شقوته بالعدو الكاشح المكشر عن أنياب القوة والغطرسة والطغيان، سائلوا العراق بعد تعذيب أبي غريب وفضيحة القوة العالمية العظمى التي تتلفع في كل أفعالها بوشاح الحرية والديموقراطية، ثم سائلوا العراق بعد ليل الطغاة الداجي الذين حكموه قرونا إثر قرون وقدّموا شعبه قربانا على مذابح التسلط والتجبر والكبرياء، بعد هذا الليل كيف انبلج صبحه على يد المتسلطين العراقيين الجدد، سائلوا سجن أبي غريب نفسه عن بشاعة تعذيب العراقي للعراقي وأنا جازم أنه سيجيبكم نزفا لا كلاما ودماء لا عبارات، ولو قدر يوما على وصف الحال لما وجد كلمة أوعب من قوله تعالى {كلما دخلت أمة لعنت أختها}. بالأمس شقي الشيعة على يد بعث صدّام السنيّ الطاغي، والذي عمّت حسرات تعذيبه وجبروته العراقيين سنة وشيعة، ولكن مضطهدي الأمس الذي تعلّقوا بقشة الديموقراطية وحقوق الإنسان ليحملوا البشرية على التعاطف معهم ونصرتهم، أثبتوا اليوم أن تعلّقهم بتلك القشة لم يكن مبنيا على قناعة مستقرة ويقين جارف بمركزيتها ومنطقيتها وإنسانيتها، ولكنه كان - حينما كان - لأنه السبيل الوحيد لتبديل مواقع الطغيان ولا أدلّ على ذلك من ممارسات التعذيب الوحشي الذي أصبح يستهدف أهل السنة مذ وجد «بعض» شيعة العراق مكانا لهم في السلطة وأحكموا قبضات أيديهم على سياط القوة الحكومية وأجهزتها الأمنية، والصور تصرخ بشاعة أكثر من الكلمات والعبارات. وفي سوريا ولبنان والمقابر الجماعية التي تكتشف تباعا، وجرائم الاغتيال السياسي والتفجيرات والسيارات المفخخة وتضخّم الأجهزة الأمنية والمخابراتية ما يجعل الليل العربي أكثر حلكة وسوادا مما كان عليه يوما، ذلك أن أكثر ما استفاده بعض العرب من التقنية والتقدم العلمي، هو استخدامها في الإضرار بالآخرين، وحين تستغل القاعدة كل التقنيات المعاصرة كالإنترنت لإحداث أضرار أكبر بالبشرية مسلمين وغير مسلمين، تستغل بعض الحكومات المستبدة نفس التقنية لتطوّر أساليب التعذيب والوحشية. في التاريخ الإسلامي كان استخدام الظلم والتعذيب والطغيان وقودا للثورات القائمة ضد الظالمين، وفي التاريخ الإسلامي - أيضا - أن المظلومين الثائرين ما إن يصلوا لسدّة الحكم حتى يمارسوا ذات الظلم والعدوان والتعذيب مع رموز النظام السابق، ثم يصبح الظلم والتعذيب سجية قارّة للحكم الجديد، ولذلك فإن «أكثر من سبعين بالمئة من أعمال التعذيب لها وظيفة سياسية» كما في كتاب تاريخ التعذيب. لقد كان موقف الإسلام واضحا منذ البداية من مسألة التعذيب والظلم، والنصوص الشرعية تنضح بكرامة الإنسان وحقوقه ووجوب رعايته، وتأمر بالعدل والإحسان وتنهى أشد النهي عن الظلم والتجبّر والطغيان، ألم يأت في القرآن {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}، ألم يأت في القرآن لعن الظالمين وذمّ المتجبرين ووعيد المعتدين، ألم يقل الله تعالى في الحديث القدسي «يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا»، بل إن القرآن كلّه يؤكد على مبدأ العدل والقسط ويحذّر من الظلم، وللعدل أنواع وللظلم مثلها، وقد جاء في القرآن الحث على كل أصناف العدل والتحذير والنهي عن كل أنواع الظلم. والسنة النبوية تزخر بتأكيد ذات المعنى وتصبّ في ذات السياق، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلّم وخز رجلا مرّة بقضيب أو بسواك، فقال الرجل: أوجعتني فأقدني، فأعطاه العود الذي كان معه فقال: استقد، فقبّل الرجل بطنه ثم قال «بل أعفو لعلك تشفع لي بها يوم القيامة» في سلسلة من الأحاديث الآمرة بالعدل والبر والإحسان والناهية عن الظلم والجور والطغيان، ومن أوضح تلك النصوص الحديث الذي رواه هشام بن حكيم بن حزام في صحيح مسلم حين مرّ بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس وصبّ على رؤوسهم الزيت فقال: ما هذا؟ قيل: يعذّبون في الخراج، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا». لكن التاريخ الإسلامي منذ بدايته شاهد يصرخ بانتهاك كل المبادئ الإسلامية والإنسانية المتعلقة بظلم البشر وتعذيبهم وإلحاق الأذى بهم، وبدءا من العصر الأموي فإن التاريخ الإسلامي أخذ في الانحدار نحو هوّة الوحشية والظلم وأصبح تعذيب البشر جزءا من كيان الدولة المسلمة له مؤسساته القائمة ورموزه البارزون، ومن أمثلة ذلك ما قاله عمر بن عبدالعزيز «حاول زياد بن أبيه التشبه بعمر بن الخطاب فأفرط، وحاول الحجاج التشبه بزياد بن أبيه فأهلك الناس» زياد بن أبيه والحجاج بين يوسف الثقفي ومسلم بن قرّة المرّي وغيرهم كانوا أسماء بارزة في ترسيخ البنية الأولية لبناء التعذيب ومنحه المشروعية السياسية والانتشار الجغرافي والامتداد الزمني الذي سمح لتجربة التعذيب بالترسّخ في النظام السياسي الإسلامي. لقد كان انتشار التعذيب كظاهرة في التراث الإسلامي كبيرا ومثيرا للتساؤل ومغريا بمزيد فحص ودراسة لمعرفة الأسباب الحقيقية لانتشاره، ونقاش مؤصّل لمبرراته ومسوغاته، فقد كان التعذيب أصنافا متعددة منها التعذيب السياسي والتعذيب الديني والتعذيب الاجتماعي والتعذيب الاقتصادي والتعذيب التعليمي وغيرها أصناف أخرى وأشكال متنوعة. والمشكلة أن السلسلة متواصلة حتى اليوم فالتعذيب السياسي يسجل حضورا لافتا وينتشر انتشارا واسعا اليوم تماما كما كان في التراث، والأصناف الأخرى لم يطرأ عليها كبير تغيير وتحوّل، وكمثال فقط فإن التعذيب التعليمي وضرب التلاميذ والدارسين الصغار كان ولا يزال حاضرا في بنية المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي، في القديم كان معلّم الصبيان يتخذ العصى القصيرة والعصى الطويلة و«الفلقة» وربما - والنقل على ذمة الجاحظ - اتخذ معلّم الصبيان مقلاعا يرمي به الحجارة على التلاميذ الفارين من عصيّه الغليظة، واليوم يستمر المشهد فقد رأيت في مقطع مصوّر جاءني على البريد الإلكتروني كيف يقوم معلّم في مدرسة بضرب طفل صغير بسلك حديدي ضرباً متوحّشاً يدلنا أنّ المشكلة مستمرة ولم تلتق بعد بحلولها العملية الناجعة.