بنضج فني باهر اقترب الروائي عبده خال في روايته الأخيرة «فسوق» من اللحظة الراهنة، سمى الاشياء باسمائها، وانجز روايته التي تتوغل في حالة المجتمع عبر حكاية «جليلة» بطلة الرواية التي بموتها وغيابها خلقت حال المكاشفة تجاه ما يدور في المجتمع. كيف تمت صياغة نموذج جليلة والشخصيات الاخرى في الرواية. وكيف كانت عوالم «فسوق» هذا ما سنتعرف عليه في الحوار التالي مع عبده خال ل «الرياض الثقافي». ٭ كفاتحة للرواي كانت هذه العبارة (هربت من قبرها) هل كانت تحمل هذه العبارة إيحاء بسيطرة العوالم البوليسية للرواية؟ - ولماذا لا تقول انها كانت بداية الإحلال الفنتازيا محل الواقع، أو الاسطرة، أو نذير طوفان لواقع أخذ يتفسخ لدرجة الوصول إلى الهروب من القبر. إن البدايات هي فخ لتوريط المتلقي في الدخول إلى عوالمك سواء كانت بوليسة أو حكاية سمجة، فحتى الحكايات الميتة لها رأس تطل به على الآخرين!! - عندما قتلت (جليلة) عشيقة محسن الوهيب بين يديه ولم يأخذ بثأرها بعد أن تعلقت روحها بأغصان شجرة السدر تنوح وتصيح: «يا قاتلي يا قاتلي لشكيك لرب العباد، بليل ما له رقاد، ونهار ما له قعاد». البعد الاسطوري حاضر في الرواية. أيضاً استحضار الاسطورة نجده في رواياتك السابقة. هذه المسألة هل تتم لترفد السرد ام انها تتشكل داخل نسيج السرد للتماهي مع الحدث؟ - مازلنا نعيش في زمن الاسطورة وإن كنا لا ندرك ذلك بصورة ملموسة، إلا ان الاسطورة هي التي تشكل مواقفنا من الحياة ومن الكون.. ومهما بلغ المرء من الادعاء أنه خال من الاسطورة ستجده يمارس عملاً اسطورياً بيقين تام.. وهذا ما يمكن أن ينقاد اليه من يصك المصطلحات النقدية حينما يتحدثون عن أسطرة الواقع، فالواقع مؤسطر من خلال انتقال تيمات الأسطورة إلى حياتنا عبر آلاف السنين.. وحين يكتب الراوي هو يستشعر بسطوة الاسطورة على الواقع، فما نفعله اليوم يترك أثره في الغد وهو بهذا يحقق جزءاً من فلسفة الرواية التي يؤمن بها أيمن من خلال فكرة المحو والكتابة، فالواقع يكتب والزمن بسلطة المتعددة يمحو، وتظل عملية المحو مبقية أثراً يدل على المحو يمكن بعضهم من اصطياد كلمات محيت فيجددها بفعل إنساني يبقي تلك الاسطورة، وهناك ما لا يمحا حين يكون سجيناً للمخيلة البشرية والتي تقوم بدورها ببثها كحقيقة لتكتب ثم يأتي دور المحو وهكذا. ويأتي السرد كأبرة مهمته رتق الممزقات واعادة تركيب صورة مفترضة للايمان الذي تؤمن به تلك الشخوص. ٭ ربما تكون رواية فسوق أول رواية محلية تدخل اقسام الشرطة. ولكن ما لاحظته انها لم تكتف بمهمة الدخول بل توغلت في شخصيات رجال الشرطة وقدمت نموذج رجل الشرطة بكل أطيافه. هذا التعاطي مع تلك الشريحة كيف تم بهذه الشفافية في الرواية، حيث لم يتم تجميل تلك الشخصيات؟ - رجال الشرطة هم نبت لأرضية المجتمع، هذا النبت يروي أو يسقي بنفس المياه التي تسقى بها الاشجار العالية والنباتات الصغيرة.. أي أن طوفان التغيرات كما يجتث الاشجار الكبيرة يغرق النبتات الصغيرة.. ورجال الشرطة هم أول من يقف على أثر تلك المتغيرات بما يصادفونه في جولاتهم اليومية.. ٭ جليلة بعد الخطيئة تحولت إلى ناسكة وكذلك محمود قفز إلى أفغانستان وحين عاد اصبح اماماً للمسجد هذه التحولات في الشخصية هل تحمل دلالات معينة؟ - التطهر يحتاج إلى وعاء يدلق على مكان النجاسة، وهاتان الشخصيتان تم كسر براءتهما حينما تم القبض عليهما وتحويل عشقهما إلى جريمة تستوجب التطهر، ولأن التدين جهة تجمع كل الشرائح على أن من استكان بها فقد نجا من الهمز واللمز فاننا نجد أن كل الموبقات التي يمارسها الفرد لن تعفيه توبته منها ما لم يستتر بمسوح الدين، وكان خيار هاتين الشخصيتين التدين في أعلى صوره حتى يردم على ماضيهما ويتحولان إلى انماذج مبهرة بتدينهما.. وهذا ما يفسر كثيراً من التصرفات التي تنتج من قبل الفئات الاقل تعليما والاكثر انحرافاً لكي تطهر سيرتها من دنس الماضي، وبمسلكهم الجديد يكونون شكلاً جديداً من السيرة المكتوبة والمعتمدة على محو الماضي وكتابة فعل جديد يمنحهم زخماً ووجوداً حياتياً وكذلك قيادة وسلطة.. هنا سر مشاكل تلك الفئات. ٭ «يرى ايمن ان المحو والكتابة هما الوسليتان للتغيير، بينما يرى فواز ان الاجتثاث ونوعيته هما المتحكمان في التغيير ونوعيته» هذا التنازع الذي يستولي على المحقق خالد في الانجذاب إلى رؤية اصدقائه فواز وايمن هل هو مصير كل من يحاول ان يتعمق في كيفية الوصول للحالة المثالية التي يجب عليها ان يكون المجتمع؟ - لا توجد حياة مثالية لأي مجتمع، فالتقاء البشر في رقعة جغرافية لا يسيرهم الا الاختلاف، ولاحداث توافق بين الامزجة يحدث العقد الاجتماعي الذي أشار اليه هوك، وتفرز الجماعات مطالبها وحين تكون السلطة على وعي بتعدد الرؤى تخلق قنواتها لامتصاص عنف تلك الجماعات. وتذبذب خالد بين فكرتي الاجتثاث والمحو هي حالة فكرية له شخصياً بينما أطياف المجتمع مسحوقين تحت ظرفية المتغير الذي لا يستوعبونه بصورة فلسفية وانما يتلقون صدمات المتغير بأفكار راسخة لا تتزحزح عن موقعها، فتتولد الخشية من القادم أو الانجراف له، وانتاج انحرافات سلوكية يقابلها استنكار لفظي، لأن من يستنكر أي سلوك هو ممارس له في الخفاء.. رواية فسوق تلعب على مستويات فكرية وسلوكية وتربوية وقناعات راسخة، تستحضر المجتمع في حالة تصادم عنيف مع كل تلك المتغيرات التي لم تبق أحداً في مكانه.. ولم يكن من مهامها البحث عن المجتمع المثالي أو التباكي عليه. ٭ جليلة عشيقة محسن الوهيب هي امتداد لجليلة الابنة. وبرغم التباعد الزمني بين جليلة العشيقة وبين جليلة الابنة نلحظ النهاية الماسأوية للشخصيات. هل تقول الرواية لنا بأن الاخطاء التي تمارس في المجتمع مازالت هي الاخطاء؟ - يمكن قراءة تكرار مأساة جليلة على هذا النحو.. ويمكن أن تتعدد القراءات على صور اخرى تبتعد كثيراً عن هذه القراءة فمثلا لماذا لا تقرأ أننا نحلل لأنفسنا الفعل ونحرمه على الآخر، أو أننا نزرع ثمار مستقبلنا في الماضي وحين يأتي المستقبل نتذوق ثمار ما زرعنا، أو أن الأماكن المغلقة تخلق حكايات عشق متشابهة.. يمكن تكرار الماسأة أن تقرأ على أوجه كثيرة. ٭ الرواية تستحضر الصراع بين الثقافة الساكنة والمتحركة هل الفسوق الذي تسجله الرواية هو نتاج ذلك الصراع بين الثقافتين؟ - هذا رأي أحد ابطال الرواية (فواز) بينما الشخصيات الاخرى ترى ان الفسوق الذي نتج وليد ظروف اخرى، كانفتاح البلد وتدخل قوى خارجية لاحداث ذلك التغير، وهناك شخصيات تحمل العوز المسؤولية عن وجود تلك المظاهر السلبية، وهناك شخصيات تدين الطفرة التي قلبت المجتمع رأساً على عقب.. وهناك من يرى ان العزلة الطويلة ادت إلى حدوث المفاجأة بمتغير لم يتم تأسيس ثقافته.. شخصيات كثيرة داخل رواية فسوق تتحدث عما طرأ كما لو كانت في رقع متباعدة لكل منها تعليل لاجتياح ذلك الفسوق في تفاصيل الحياة اليومية. إلا ان التنظير الحقيقي الذي مارسه فواز هو الاقرب إلى اصطدام ثقافتين ساكنة ومتحركة لتولد شرارة كل تلك الحرائق التي نشبت في اظافر الناس لتشعرهم بألم الحريق. ٭ شفيق القبار كعاشق امتداد لشخصيات العشاق المازوشين المتلذذين بعذاباتهم في العشق. والذين يعشقون الانثى المستحيل. كذلك جليلة هي امتداد للانثى السادية التي تصنع بمهارة الوجع في قلوب عشاقها.. في رواياتك صياغة هذا النموذج من العشق هل يأتي عفوياً أم هو استمرارية لتأكيد حقيقة ما في العشق وفي علاقة الرجل بالمرأة؟ - عشق شفيق هو عشق شاذ، ولدته العزلة.. هذا اذ اردنا ان نسطح عمق نفسية شفيق، لكن متابعة بوحه الداخلي يوقفنا على وجع اكثر عمقاً ووجعاً مما نتصور.. عد وقرأ ذلك العذاب النفسي الذي تولد لديه، كان يسرقها جزءا جزءا حين شعر انها تتملص من بين احلامه.. هل يمكن ان تأخذ قصة شفيق بدلالة أعمق مما هي عليه كسرد حكاية؟ ٭ في حوار المحقق ايمن مع رجل هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كان هناك اشارة للصراع بين المؤسسات تجاه السلطة التي تتحمل الفصل في القضايا الاخلاقية. هذه الاشارة هل نتاجها ما صارت عليه جليلة؟ - نعم، والرواية تدور في فلك ان هناك من يدعي الاصلاح فإذا به يدفع بمن وقع في يديه إلى كارثة ازلية، فحياة المرء تقوض بسبب خطأ طفيف، وجليلة ومحمود تم تقويض حياتهما باصلاح خاطئ، حيث دفعت محمود للتشدد وجليلة للعزلة، وثمة شخصيات أخرى جرفت حياتها بسبب ذلك الخطأ الطفيف ليحولوا الى مجرمين أو مصلحين للتطهر من اثم ضخمه المجتمع حتى قاد الفرد الى البحث عن التطهر ولو من خلال التطرف الديني. ٭ ما مبرر غرس شخصية الشرطي «عطية» في نهاية الرواية بهذا الشكل الكاريكاتوري؟ - لأن الزمن الروائي كان كاريكاتوريا أيضاً، المأساة تأتي من الملهاة احيانا، كانت الرواية بحاجة الى غباء اضافي كي تتحقق الكارثة، وكان عطية الجانب الكاريكاتوري في تلك الحلقة من الترابط المهشم. ٭ بينما نجد الزمن في مدن تأكل العشب والايام لا تخبئ احداً يتمثل في البعد الفيزيقي ونجده في الطين يتمثل في بعده الميتافيزيقي. في فسوق ايضاً نجد دمج الازمنة. كيف تنظر لمسألة الزمن في الرواية التي اراها تشغل حيزاً كبيراً في بناء اعمالك الروائية؟ - ثمة زمن منبسط، وهو الزمن السرمدي، وهناك زمن متناهى الوجود في صغره، وثمة زمن ثابت وزمن متحرك.. وزمن حي وزمن ميت، وتغدو الكتابة استحضاراً لكل الازمنة وفق احتياجك لتلك الازمنة. ٭ الفصل الأخير الذي يبوح فيه شفيق القبار بسر عشقه لجليلة كتب بلوعة وبلغة متأججة بالعذابات. هل تحكي لنا تفاصيل هذا المشهد الخرافي؟ - كتبت هذا الفصل عشر مرات، وفي كل مرة اجد اني لم اصل الى اعماق شفيق.. فاحتجت لان اقف مترويا في احد مقابر جدة لوقت طويل، لم يسمح لي ان ابقى الى ما بعد الغروب.. ان ادخل في الليل ويدخل الليل في داخلي.. وكلما كتبت ذلك المشهد نهض شفيق من الليل ومن عزلته باصقاً اسفل قدمه.. كمن يتهمني بالتفريط في امانة ان اعيد سرد مقاطع حياته كما يشعر بها لا ان اسردها كما لو كنت سارقاً.. في كل محاولة لكتابة هذا المشهد ابقى جزءا منه، وحين وصلت الى المحاولة العاشرة، كنت قد استقررت على ما مكتبته.. وانتظرت يومين لأطمئن على صياغته الأخيرة وحين لم يخرج شفيق كعادته باصقاً اسفل قدمه، ثبت ذلك المشهد بقسم ان لا اعود اليه. ٭ مازالت عوالمك الروائية تنتمي الى معالجة هموم وعذابات الطبقة الكادحة في المجتمع. بينما الطبقة الارستقطراية تعاني من اهمال حضورها. هل هذا يفسر ان لعبده خال موقفاً ما من تلك الطبقة؟ - لا، ولكني لم اعش تفاصيلها، فهذه الطبقة لها طقوس حياتية يمكن ان نرصدها من الخارج، اي من خارج الشخصية لكننا لا نحمل وجه نظرها، فالثراء كالمكان ان لم تعلم تفاصيله ينعكس ذلك على العمل، انا العب في منطقتين هما الطبقة الاوسطى والدنيا وهما طبقتان تمثلان نسبة كبيرة من شرائح المجتمع، وقد سبق ان كتبت عن طبقة الاغنياء الا ان الكتابة ظلت كتابة خارجية.. ولا اخفيك اني اتابع شخصية رجل اعمال كبير، ففي كل مكان التقى به اجده يزداد انتفاخاً ولا مبالاة بمن هم حوله، شخصية بطريرقية لا تعرف سبباً لتشمير شفتيه الدائم، وكأنه في حالة مصارعة لا تنتهي.. هذا الشخصية راقت لي ان اكتبها الا اني لم استطع ان اتمثل حالة التأفف الدائمة.. حتى عندما يتناول جرات من دخان الارقيلة تشعر انه متفضل عليها بأن الصقها بين شفتيه الا تلاحظ ان هذه الكلمات القليلة مست السطح.. هذه الطبقة ملئية بالسرد لكن منطلقاتها تغيب في احيان كثيرة عني انا تحديداً. ٭ في الرواية حضرت الاسماء التي تتطابق مع اسماء الواقع. هل نقول ان تسجيل تلك الاسماء في صورتها التي تتماهى مع الاسماء الواقعية. هو غياب للتحسس وان الروائي اصبح يشعر بأن المجتمع بدأ يتقبل الرواية بكل عوالمها السردية؟ - هو امر لا يزال متأرجحا بين القبول والرفض، وحين اقدمت على تسجيل الاسماء، كأسماء تلتصق بمواقع جغرافية محددة هو محاولة لتوسيع ذلك القبول وتوطين الاسماء ان جاز التعبير. ٭ هل نقول ان الرواية كانت مبالغة في تشاؤمها تجاه ما يحدث في المجتمع؟ - الاجابة عن هذا السؤال اتركها لنظرة المتلقي وكيف يتلقى تلك الاحداث.