اتسع هامش المجتمع المحلي في المملكة، في المدّة من سبعينيات القرن الهجري الرابع عشر (خمسينيات القرن الميلادي العشرين)، وثقافياً اتسعت الرقعة الجغرافية للصحافة، التي جاوزت الحجاز، لتحدث أثرها في أقاليم اخرى، فأنشأ حمد الجاسر مجلة «اليمامة» - أولى الصحف والمجلات في نجد - عام 1373ه - 1953م؛ وأنشأ عبدالكريم الجهيمان صحيفة «أخبار الظهران: 1374ه - 1954م» في المنطقة الشرقية، ولم يقف الأمر عند هذا القدر، فلقد تنادى نفر من المثقفين في غير منطقة إلى انشاء الصحف والمجلات، حيث أنشأ أحمد الشيخ يعقوب صحيفة «الفجر الجديد» في الدمام عام 1374ه - 1955م؛ وأنشأ سعد البواردي مجلة «الاشعاع» في الخبر عام 1375ه - 1955م؛ وأنشأ عبدالله العلي الصانع صحيفة «القصيم» في الرياض عام 1379ه - 1959م؛ وأنشأ عبدالله بن خميس مجلة «الجزيرة» في الرياض عام 1379ه - 1960م، وشهدت تلك السنوات فورة في انشاء الصحف والمجلات، كمجلة «الأضواء» التي أنشأها محمد سعيد باعشن وعبدالفتاح أبومدين في جدة عام 1376ه - 1956م؛ وصحيفة «حراء» التي أنشأها صالح محمد جمال في مكةالمكرمة عام 1376ه - 1956م؛ وصحيفة «الندوة» التي أنشأها أحمد السباعي في مكةالمكرمة عام 1378ه - 1958م؛ وصحيفة «عرفات» التي أنشأها حسن عبدالحي قزاز في جدة عام 1378ه - 1958م؛ ومجلة «الرائد» التي أنشأها في جدة عبدالفتاح ابومدين عام 1379ه - 1959م؛ وصحيفة «عكاظ» التي أنشأها أحمد عبدالغفور عطار في الطائف عام 1379ه - 1960م. وظهر على عدد من هذه الصحف التأثر الواضح باللغة السياسية والفكرية الذائعة في الأدبيات السياسية الثورية، آنذاك، ولعل من أظهرها المطالبة بألوان من الإصلاح السياسي والاقتصادي، مساجلة الشركات النفطية التي أجحفت بحق الوطن، وذيوع المفردات السياسية الناصرية وبخاصة بعد «العدوان الثلاثي على مصر: 1376ه - 1956م»، وما حدث بعد ذلك من تجاذبات سياسية لم تعتم أن ألقت بظلالها على الثقافة والمثقفين في المملكة، والطريف في الأمر أن تشيع مفردات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في كتابات المتأثرين بالخطاب الناصري والمناوئين له من بعض علماء الدين والمشايخ، ومن أظهرها مقالات زيد بن فياض التي دعا فيها إلى رأب الفجوة بين الطبقات، والمحافظة على المال العام، ومناهضة الألقاب الاجتماعية والسياسية. وكما صبغت الأماني القومية والنزعات الواقعية الأدب العربي في تلك المرحلة؛ فإن هذه الأماني وتلكم النزعات وجدت التربة الاجتماعية والثقافية والسياسية في المملكة مهيأة لها، وبدا ذلك في شيوع النزعات الواقعية فيما يكتب الأدباء السعوديون، وبات من المعتاد أن نقرأ مفردات «الفلاح»، و«الاقطاع» و«الفأس»، و«الجماهير» فيما بين يدينا من آثار تلك المدة، ترسما للموجة الأدبية والفكرية التي قرنت التجديد بقضايا تهديف الأدب والتزامه، وكان من السائغ أن نجد أصداء ذلك التحوُّل لدى الشاعر محمد حسن عواد - كبير مؤصلي الشعر الرومنسي في المملكة - حين عبر عن موقفه من الشعر الواقعي بأنه «الأدب المحترم»، وأن تصبح عبارة «الأدب للحياة»، أو «الأدب للمجتمع» من بين أشيع الرواسم الأدبية في أدب تلك الحقبة وصحافتها، وأن تشيع الأخيلة الواقعية والمضامين الاجتماعية في شعر سعد البواردي، وعبدالرحمن المنصور، وناصر بوحيمد، وعبدالله عبدالوهاب وآخرين. أما النقد الأدبي فقوى عوده، في تلك المدّة، ووسم الصحافة بميسمه، وبدا أن النقاد السعوديين كانوا على معرفة جيدة بما يقوم عليه النقد ومناهجه في الثقافة العربية الحديثة، بل إن هناك دلائل قوية على معرفة بعض النقاد لآثار الاتجاهات النقدية في الآداب الغربية، وبخاصة الاتجاهات الاجتماعية في الآداب الروسية، وكان مما عزز الحضور النقدي المعارك الأدبية التي استعر لهيبها في صحف ذلك العهد، وشملت أوجه النشاط الأدبي: شعراً ورواية وقصة قصيرة، وأبانت، في مجملها، عن وعي عميق بالشأن النقدي، وبصيرة بمداخل القول ومخارجه، وكانت تلك الفورة النقدية مهيأة لمولد الكتاب النقدي حين أصدر إبراهيم فلالي - الشاعر والناقد الرومنسي - كتابه «المرصاد: 1370ه - 1951م»، الذي أبان في اجزائه الصغيرة الثلاثة (1375ه - 1956م) عن انتقال فلالي من الرؤى الرومنسية الخالصة، إلى الملامح الاولى للنقد الواقعي، وكان صدور «المرصاد» في السنوات الأخيرة من حكم الملك عبدالعزيز والسنوات الاولى من حكم الملك سعود أنموذجاً للتحولات العميقة التي طرأت على الثقافة في المملكة، فكان «المرصاد»، بحق، ارهاصاً بتلك التحولات الأدبية التي أحس بها إبراهيم فلالي، فشرع يفتش عن الأدب الجديد الذي يرمي إليه، تحدوه رغبة عميقة في الثورة على ما درج عليه الأدباء السعوديون فيما ينشئون من شعر ونثر، فجعل من «مرصاده» محاكمة أدبية لحقبة مديدة من الزمان، لما تزل، في ذلك العهد، محكمة خناقها على أدب السعوديين وثقافتهم، وكان تقديمه للكتاب أقرب ما يكون إلى البيان الأدبي الذي يبشر بعهد جديد للأدب. «ليس الأدب ملهاة يَتَلَهّى بها الناس ويعبث بها الأطفال، وليس هو مائدة مباحة للمتطفلين. ولكنه عصارة النفوس والقلوب والعقول، وصورة للإنسانية لا يحدق تصويرها إلا اليد الصّناع الماهرة، ولا تجيد ألوانها إلا ريشة الفنان الملهم. والصورة الأدبية للوجود الخالد لا يحسن تصويرها إلا الذين أوتوا القدرة عليها. وأولئك هم الأدباء الخالدون الذين لا يستطيعون إلا أن يكونوا أدباء أرادوا أم لم يريدوا، كالنحلة التي لا يمكن إلا أن تنتج عسلاً شهياً أرادت ذلك أم لم ترده، علمت به أم لم تعلم. ولا يضار النحلة أن يتشبه بها الذباب، ولا يضيرها أن يشاركها في ارتشاف الرحيق من الزهور كما ترشفه هي سواء بسواء، ولكن الذباب لا يستطيع أن يفرز عسلاً وليس في وسع النحلة أن تفرز شيئاً غير الشهد. وكما أن العسل الخالص من الشوائب فيه شفاء للناس. كذلك الأدب الصحيح فيه صلاح للإنسانية وسموّ بها. لأنه روحها. وهو الأفق الرحيب، الذي تترقرق فيه النسمات النقية المنعشة. فعلى الذين تهمهم حياة الأدب في بلادنا أن يحرصوا على أفقه الرحيب، ولا يدعوا أبخرة الرؤوس الجوفاء تتسرب إلى نسماته العذاب النقية فتعكرها. نحن في فجر نهضة أدبية قد آذن ضحاها بالسطوع القوي الباهر، ولنا شبيبة ظمأى تريد أن ترتشف من مناهل الأدب ما يروي ظمأها، وأقرب ما يرتشفه الظمآن ما كان في متناول يده من نتاج أدباء بلاده وشعرائها. وحرام على المخلصين للأدب أن يتركوا شبابهم وفتيانهم يتنهلون من الماء الرنق. فلابد من تنقيته وتقديمه شراباً سائغاً ليضمن حياة أدبية صحيحة. وقد آن لنا الآن ألا نتجاوز عما كنا نتجاوز عنه سابقاً، وأن نصحح الموازين الأدبية تصحيحاً لا يسمح بإدخال الغش فيها». (ص ص 19 - 20).