فقر الأمس وحاجته وفقر اليوم وحاجاته بينهما تباين كبير مثلما هو التباين والاختلاف بين ذاك المجتمع الذي مضى بضروراته وهذا الذي نعيش ضمنه بكل متغيراته. والفقر مرادف لعبارة الحاجة لكنه ليس مرادفاً لمظهر من المظاهر، وقد نستدل بعلامة على وجوده فيتبين لنا بعد فترة أننا أخطأنا في تفسير الموقف، وكذلك العكس فقد نستدل بعلامات على الغنى لكنها تستر عنا حاجة فقير وراءها. لعلنا اليوم ومثلنا مجتمعات كثيرة نعاني من متطلبات الحياة التي استجدت وفرضت نفسها علينا أكثر مما نعانيه من الفقر، ولعل دائرة الفقر أقل حجماً مما نتوقع، وأصغر من تصورنا لها، لكن دائرة الذين يقعون فريسة للمتطلبات أكثر، ومعاناتهم كبيرة ومع ذلك فهم ليسوا فقراء. وتبرز مشكلة أهم من كلتا الحالتين وأعني (حالة الحاجة للمتطلبات وحالة المعاناة من الفقر) وهي الحاجة إلى الوعي الديني والتطبيق العملي لهذا الوعي الذي يشكل الضابط لحياة البشر بمختلف أجناسه وألوانه ومكانه وزمانه، فمجتمع بلا وعي تطبيقي يخاف من خلاله من الله ويتقيه ويصبر في السراء والضراء ويدرك أنه خلق لعبادة ربه لا شك سيكون مجتمعاً فيه التخبط ما يزعزع جوانبه ويسقط أركانه ويتفتت من داخله ولن يعمر وطنه، بل سيجره إلى الفوضى، لأنه مجتمع يريد أن يعيش كما تعيش البهائم، أو كما يقول آباؤنا وأجدادنا عندما يرون من لا يهتم بالجانب الديني (فلان ما يدري وش هو مخلوق له) وهذه العبارة قمة في السخرية من الشخص لأن الإنسان الذي لا يعرف هدف وجوده في الحياة لا يفكر في صلاح أمر أبداً، يعيش مستهلكاً مستهتراً سلبياً، ويموت خالي الوفاض من الحسنات وأعمال الخير، لا تفقده أرض ولا سماء، ولا يترك فراغاً في مجتمعه لأنه عالة عليه. وعلى هذا أمام المجتمع ثلاث حالات يجب مراعاتها ومعالجتها وهي: ٭ الوعي الديني. ٭ الفقر. ٭ متطلبات الحياة. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخش علينا الفقر رغم ما ينسج حوله من مصاعب ومتاعب وما يؤدي إليه من الحاجة، ذلك لأن سلبياته أقل من غيره، ولأن معظم الفقراء أصلح شأناً وحياة واستقامة وورعاً وثقافة وصبراً وجلداً من غيرهم، فعاد الفقر عليهم بنعم كثيرة. إذاً ما الذي كان يخشى علينا؟ لقد خشي علينا أن تفتح علينا الدنيا بزهرتها، فيحصل التنافس منا عليها فتهلكنا كما أهلكت من قبلنا. هذه هي المشكلة الحقيقية، إنها الدنيا بمتطلباتها التي لا حدود لها، حتى إن المرء لو يعطى واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، لما فيه من الضعف والطمع والجشع لولا تقييد الأطماع بالعقل والوعي المستند على علم وإدراك صحيح نابع من دين الإسلام الذي جاء لتصلح معه الأحوال وتسعد به الأجيال. لقد كانت حاجة الآباء والأجداد تنحصر في الأمن من العوامل الطبيعية والبشرية داخل مسكن متواضع بسيط يقيهم حر الصيف وشمسه وبرد الشتاد ومنغصاته، ثم حاجة الطعام، وقليل من اللباس يستر البدن. غابت أطماع السابقين وتقلصت إلى أضيق نطاق حاجتهم التي تعارفوا عليها فانحصرت التطلعات في عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وأصبح الأفراد سلاطين زمانهم إذا عاشوا ضمن أسرة داخل مسكن ربما من غرفة واحدة أو غرفتين، وربما في بستان صغير، وشبعت البطون حتى ولو من أراد أنواع الطعام. لا يتسابق الناس على التنافس الدنيوي بشيء وصار الكفاف صفة الجميع وانطبعت كل البيوت بطابع واحد هو الستر والكفاف في المعيشة، فنتج عن ذلك فقد التمايز وزوال الفوارق حتى لم يعد هناك فرق بين الأسر ولا وجدت طبقات متباينة الأمر الذي جعل الفقير فيما مضى لا يعاني كثيراً من جوانب اجتماعية تزيد من حسرته وألمه بل انحصر همه في حاجته وتحول الهم إلى الآخرين الذين يحسون بمشكلته ويتفاعلون معها ويعينونه على التعايش معها وتجاوزها، وهذا التلاقي بين أفراد المجتمع خفف عن الفقير الكثير من المعاناة، وصارت مشكلته ملقاة على كل أهل بلدته وأقاربه والموسرين، وأصبح يترقب الحل الذي يؤكده مبدأ التكافل والتراحم ويمول من مصادر كثيرة هي الزكاة والصدقات والتبرعات وجوانب الخير في قلوب الناس. ومن الرحمة بين الأفراد أن الجيران يطعمون بعضهم مما يأكلون أو يشربون، ويهدونهم بعض ما يحصلون عليه ويقسمون لهم نصيباً من ثمار مزارعهم ومن كل ما يمكن أن يدخل السرور عليهم. وهذا التواصل أزال جميع الفوارق وعاش المجتمع كإخوة في عائلة واحدة لا يرتفع فيها فرد على آخر ولا يهنأ إلا إذا عم الهناء بقية الإخوة. ينام الفرد ملء جفونه إذا أمن في بيته وعوفي في بدنه وشبع، وهذا هو الوضع الصحيح الذي يجب أن يكون عليه كل الجنس البشري في كل زمان ومكان. لكن تحول المجتمع بعد انفتاحه على طرق من الدنيا متشعبة ونوافذ من الاستهلاك والانفاق متعددة وتطلعات أو هي رغبات لا حصرلها، وهذا التحول خطير جداً لسبب واحد هو أنه جعل العديد من الناس في حالة نهم وجوع إلى المستوى الذي عليه غيرهم مما حولهم في نظر الآخرين إلى فقراء. وهو فقر إلى التطلعات فقط لا فقر كما هو معروف ويعني الحاجة إلى القوت والمسكن أو الضروريات المعتادة. هذه الحالة جرت معها أشياء كثيرة ليست في صالح المجتمعات ولم يقتصر ضررها على دولة بعينها أو مجتمع محدد بل إنك تلاحظها في كل دول العالم. الفقير فيما مضى هو الذي يحتاج إلى الطعام ليسد رمقه والكساء الذي يستتر به، ومسكن يؤويه ويقيه البرد والحر. لقد كانت الضروريات للجميع واحدة، والناس تقف عند حد الحاجة والضروري من المأكل والمشرب والمسكن واللباس وخلافه، لا تزيد على ذلك ولو كان لديها مال قارون والأكداس من الأموال. لم يكن مجتمعنا فيما مضى يصرف الأموال في غير الضروريات ولهذا تساوى الناس في المساكن والملابس والهيئات، وترى الجلوس من الرجال ولهم الهيئة الواحدة لا تكاد تفرق بينهم، بل إن البعض من أهل الحاجات والفقراء يبدو في مظهره وكأنه من أغنياء المجتمع لحسن مظهره وهو يخفي الفقر والحاجة ومثل هؤلاء يحسبهم الجاهل بهم أغنياء من التعفف، لا يتصنعون الحالة الدونية ولا يرتفعون بطرق وحيل وهمية ولا يتزينون بالمفاخر، بل يعيشون مستورين وبالحياة التي هم عليها مقتنعون وبرزق الله قانعون. عاش المجتمع قبل الطفرات والمستجدات عيشة هانئة، فالفقير يعلم به من خلال التواصل فتتم كفالته وساد التكافل والتعاضد، والغني جاد ببعض ماله ليهنأ الفقراء. ولننظر إلى مقاييس اليوم في عمليات الفقر والغنى. أصبح أي فرد يريد أن تكون له كل الكماليات مع الضروريات وكل المستجدات، انظروا ماذا يحتاج الفرد اليوم: يريد سيارة ويركب طيارة، يريد جوالاً وهاتف منزل، وبيتاً شبيهاً بالقصور، ويريد التسوق الليل والنهار، ويشتري من كل ما رآه حتى أطفاله لا يريد أن ينقص عليهم لعبة ولا أن يكون هناك متنزه ولا حديقة إلا صار فيها وأول الداخلين لها. انظروا إلي مطالب المدارس، ومتطلبات العلاج والمستشفيات، انظروا إلى السياحة، والتسابق في كل الكماليات. بالأمس تعد الساعة التي يلبسها الناس اليوم من الكماليات البعيدة عن أغلب الناس، فكان المؤذن فقط هو الذي يحملها لحاجته إلى ضبط الوقت، وكانت تربط في سلسلة وتلف في خرقة وتوضع في جيب مخفي منفذه مع الجيب وبين الأزرار، لا يصل إليها غبار ولا يخرجها إلا آخر النهار لكي يملأ (الزمبرك) تحسباً لعملها يوم الغد. انظروا اليوم كم في الجيوب من الأجهزة، وكم على الأجسام منها، حتى وصل بعضها لوزن أثقل من حاملها. إذاً أصبحنا نعيش الفقر الصناعي والحاجة التي فرضناها وفرضها الوضع العام علينا. تجد العائلة باتت شبعانة من الغذاء وفي داخل المنزل ما يكفي لسنة منه، ومع هذا تعد فقيرة في مقاييسنا اليوم. لو أراد أحدنا أن يلبي طلبات العائلة لم تكفه الميزانية العامة للدولة، وصار الشاب في سن المدرسة المتوسطة يصرف ما يكفي لعائلة كاملة فقد تصل فاتورة الجوال إلى ألف ريال أو أكثر مع مصاريف السيارة التي يتجول بها ليل نهار، بينما عائلته تعد من العائلات الفقيرة، وهو يعيش بينها كمسمار يثقب الإناء الذي تجتمع فيه أرزاق هذه العائلة. علينا أن نبحث الأسباب التي أوصلت بعض - وهذا البعض كثير جداً - شرائح المجتمع إلى لباس ثوب الفقر، ومن ألبسهم هذا الثوب ومن جعلهم يرزحون تحت غائلته، فلا نقوى فك أسرهم ولا هم يستطيعون التخلص منه. ليس معنى وجود عائلة في مسكن بسيط محترم أنهم فقراء، وليس معنى وجود عائلة في فلة من الطراز الحديث أنهم أغنياء، وليس بالضرورة ما يخصص للعائلة الفقيرة من مال يصرف فيما ينفعها وينفع المجتمع، لكن بحسب الوعي العام والحياة المتجانسة تكون النتائج، فعلينا أولاً أن نعي المشكلة من أساسها وهي تتمحور في التحول العجيب الذي أصاب المجتمع، فكثرت الثقوب في أرضيته التي كانت صلبة، واستنزفت مدخراته، وسائل استنزاف أو طارت في الهواء أو عصفت بها رياح الغفلة هنا وهناك. الشاب عندما يبحث عن عمل يريد راتباً ضخماً، ليس لأنه طماع، ولا يجب أن نصفه بالجشع والدلال أو نقول عنه إنه كسول ولكنه يرزح تحت ثقل التغيرات التي تجبره أن يبحث عن راتب أكثر يسد حاجته لكي يكون مثل غيره، وفي وقت لا يستطيع أن يبقى في درجة أقل حتى لو رضي بتلك الدرجة، أليست السيارة ضرورية، أليس الجوال ضرورياً، أليست الحياة اليوم نار تلتهم الأخضر قبل اليابس، تفرغ الجيوب بدون سبب، وتستنزف المدخرات في لحظات. نريد شبابنا أن يعيشوا كرماء النفوس متقاربين في المستوى حتى يشعروا بالتلاحم ويكونوا يداً واحدة بينهم تشابه في المعيشة تلاحم في الأهداف يحصلون على الفرص المتاحة في نفس المسار والسرعة. ونحن نعلم أن أول علاج للفقر هو وجود العمل، وبدونه سيحصل الخلل الذي يقود الشباب إلى ما لا تحمد عقباه، ويكلف المجتمع أضعاف ما يصرفه في تأمين مثل هذه المسارات الصحيحة. وختاماً أقول نحن في أمس الحاجة إلى تكثيف الوعي لكي تتقارب الزوايا المنفرجة والمتباعدة، وفي الوقت نفسه نحاول سد الثقوب التي تسرب المدخرات، وتأمين العمل الكريم لكل فرد لا أن نوجد له ما يكفيه مؤقتاً ثم يعود الشباب إلى سابق همه ومعاناته. والسلام.