الذاكرة عند كبار السن هي الوعاء الذي ينبض بدفء الذكريات التي تسطع بعاداتنا وتقاليدنا الشعبية فنتعرف من خلالهم على سيرورة الحياة بكل تفاصيلها اليومية.. وعبر هذه اللقاءات سنتعرف على رؤية كبار السن لشهر رمضان المبارك ما بين الأمس واليوم. بداية التقينا مع محمد بن يحيى موسى «أبوحيّا» الذي يبلغ من العمر مائة عام الذي زفر زفرة حرّى قال: سقى الله أيام رمضان.. ففي الماضي ورغم شظف العيش إلا أن رمضان زمان أجمل بكثير من رمضان اليوم الذي غدا بلا لون ولا طعم بسبب ما نراه من فضائيات التي للأسف غيرت الكثير من العادات الشعبية التي كانت ترافق رمضان، وأضاف: فارق كبير جدا ما بين رمضان بالأمس ورمضان اليوم. فرمضان الأمس ليس فيه سوى تمر وبرّ وسمن أما اللحم فلا نأكله إلا من العيد للعيد.. أما اليوم فالخيرات كثيرة بفضل الله وأسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة.. وألقى بنظره نحو الأفق البعيد وأخذ نفساً عميقاً واعتدل في جلسته قائلاً: في الماضي كان الإنسان نشيطاً يتحرك هنا وهناك ويمشي طوال يومه فكانت الأمراض في الماضي قليلة، أما اليوم ومع قلة النشاط الحركي فالأمراض أصبحت أكثر من أن تعد وتُحصى. وأضاف: كنا نفرح ونبتهج كثيراً بقدوم رمضان فعندما يبلغونا بدخول شهر رمضان كنا نطلق العيارات النارية من البنادق حتى نخبر ونعلم القرى المجاورة بدخول رمضان، وكنا نشعل النار في رؤوس الجبال حتى تعرف القرى والقبائل الأخرى بدخول هذا الشهر. وكنا نقوم بتبادل الزيارات بين أفراد القرية في جو روحاني مفعم بالعبادة والطاعات مؤكداً أن العلاقات الإنسانية كانت قوية الأواصر، فالجيران يسألون عن بعضهم وكان يسود مجتمع القرية الحب والوئام، وكنا بعد صلاة التراويح نجتمع حول النار نتبادل أطراف الحديث وشجون الليل وتدور فناجيل القهوة وكؤوس الشاي في جو أسري تسوده الألفة والمحبة بعكس الزمن الحالي الذي غدا فيه الناس منعزلين عن بعضهم البعض حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. فالجار لا يعرف جاره، وقد لا يبارك له بحلول رمضان ولا يشاركه في المناسبات وقال: بالنسبة للمأكولات فاليوم أفضل بكثير.. ففي الماضي لم يكن سوى البر والشعير والذرة والدخن ولبن الغنم والبقر والسمن واللحم كان في الماضي قليل أما اليوم فالخيرات وفيرة وألوان الأطعمة لا تعد ولا تحصى والحمد لله.. وأشار العم محمد يحيى إلى أنه عندما كان يدخل شهر رمضان كانت الإمارة ترسل مرسولاً يمشي على رجليه إلى رجال ألمع «الشعبين» ليبلغ الناس بالصيام ففي ذلك الوقت لم تكن هناك برقيات ولا تلفونات.. وكان الجيران في الماضي يتعازمون فيما بينهم على الفطور ومن العادات الرمضانية الجميلة «السمرة» فكنا نسهر ونسمر ونضحك ونلعب وكان هناك سباق التحدي بين الرجال وكانت تعد وليمة بعد السباق لمن يفوز. أما بالنسبة للسحور فقد كان الجيران يطرقون أبواب جيرانهم لإيقاظهم على السحور وهكذا يفعل بقية الجيران.. هذه هي أهم معالم رمضان أيام زمان، أما اليوم فرمضان غدا غريباً ولو كان له لسان يتحدث عن نفسه لقال الكثير الكثير. ويقول الوالد يحيى عبدالله هبيش: إن رمضان هو رمضان لم يتغير ولم يتبدل ولكن نحن الذين تغيرنا وتبدلنا، وأشار بأصابع الاتهام إلى الناس فهم الذين تغيروا وغيروا الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، فرمضان اليوم للأسف أصبح موسماً للفضائيات ومتابعة المسلسلات والبرامج وأصبح الناس يسهرون حتى الفجر وينامون في النهار والبعض منهم لا يستيقظ إلا قبيل المغرب بساعات قليلة، فأي رمضان هذا الذي يقضيه الناس بين الخيام الرمضانية والمقاهي والشيشة ولا مكان للعبادة في برنامجهم الرمضاني اليومي.. نوم بالنهار وسهر بالليل. هذا هو حال الكثير من الناس في رمضان حيث غدا همهم تمضية الوقت باللهو الفارغ بدلاً من أن يستثمروا هذه الأوقات بالعبادة والطاعات وذكر الله تعالى والدعاء إليه. ويرى أحمد الصغير أن رمضان شهر الخير والرحمة ويتميز عن باقي الشهور في كثير من النواحي الدينية وله ترتيبات وأنشطة مختلفة، وأضاف: لو رجعنا بذاكرتنا إلى ما قبل ربع قرن فقط لوجدنا بأن هناك أموراً ومظاهر اختفت وسلبتها الحضارة الحديثة (حضارة الدش). ومن هذه المظاهر المندثرة المسحراتي الذي كان له حضور محبب وخاصة عند الأطفال، وقال: إن رمضان في السابق ظاهرة اجتماعية رائعة فقبل أن يؤذن للمغرب تجد صحون الطعام تتطاير من بيت لآخر كلا يعطي جيرانه من طعامه ليشاركوه وبذلك يكون في البيت التنوع من الطعام رغم بساطة الحياة وهذا يذكرني عندما كنا نصنع المهلبية ونضع صحونها في صحن كبير فيه ماء لتبريدها وغالباً ما يكون (طشت الغسيل) وفي الماضي لم تكن هناك قنوات فضائية تجعلنا نقطع أواصر الصلات والمودة أو تلهينا عن العبادة والنوم في الليل وما ألذ نوم الليل. ويقول الأستاذ صالح بن علي الزهيرة - عضو اللجنة ومندوب الشؤون الاجتماعية بمنطقة عسير - بأن رمضان في الماضي زمن نبكي عليه أما رمضان اليوم فهو يبكي علينا، فنحن الخاسر الأكبر في ذلك فما أكثر الذين يعتبرون شهر رمضان موسماً للفضائيات ومتابعة المسلسلات والسهر في الليل والنوم في النهار، هذا هو للأسف رمضان عندهم.. وكان الأجدى لهم أن يستثمروا هذه الأوقات الفاضلة بالطاعات والتقرب إلى الله زلفى. وأضاف: هناك فارق كبير وفجوة واسعة ما بين الأمس واليوم، بالأمس كانت المحبة والمودة تسود أبناء الحي وأبناء المجتمع الواحد، أما اليوم فالحقد والحسد والضغينة والبغضاء نراها في أفراد الأسرة الواحدة.. كان مجتمعاً متألقاً الجميع يطعم جيرانه ويتبادلون صحون الأطعمة فيما بينهم. واليوم ورغم توفر هذه الخيرات الكثيرة إلا أن الإنسان انكمش على نفسه وحتى إن رمي مخلفات الأطعمة يمكن أن تعيش عليه أسر بكاملها فهذا البذخ والإسراف يحتاج إلى وعي أسري. وتساءل: لماذا لا يتم توزيع قيمة هذه الوجبات التي ترمى على الفقراء والمساكين.