حين بدت بغداد القديمة طيفا هاربا من وطأة الحصار والدكتاتورية والحروب والاحتلال الأمريكي استنهض مثقفون عراقيون وأجانب الهمة الكفيلة بإنقاذ التراث المعماري للمدينة كأنهم يرممون ذاكرة بلادهم أو يقبضون عليها كحلم. فكرة إنقاذ المدينة تبنتها مؤسسة ثقافية ألمانية ترأسها الشاعرة العراقية المقيمة في برلين أمل الجبوري بهدف إعادة إحياء شوارع وأسواق بغداد القديمة «ومثلث الديانات الواقع في محيط جامع الخلفاء حيث يتآخى الإسلام والمسيحية واليهودية إذ يقوم جامع الخلفاء إلى جوار كنيسة ويقابلهما معبد يهودي.» وقالت الجبوري لرويترز إن هذه الأهداف ستتحقق في الفترة القادمة من خلال (جمعية أصدقاء بغداد القديمة) التي أعلن عن تأسيسها في الآونة الأخيرة وإن فكرة الجمعية قامت على غرار (جمعية أصدقاء حلب القديمة) التي تمكنت من إعادة بناء مدينة حلب القديمة في سوريا بالاعتماد على خطط هندسية وضعها خبراء ألمان ونفذها مهندسون من حلب بتمويل مؤسسات أجنبية. وأضافت أن محبي بغداد القديمة من العراقيين والألمان «وربما سينضم إلينا أصدقاء فرنسيون سيعملون على تبصير الأهالي بأهمية المدينة القديمة وتفرد تراثها العمراني حتى تتم إعادة بناء ما دمرته الحرب» في إشارة إلى ممارسات القوات الأمريكية منذ بدء غزو العراق يوم 19 مارس آذار 2003 وسقوط نظام الرئيس صدام حسين في التاسع من ابريل نيسان. وأنشئ في برلين عام 2002 (اتحاد ديوان الشرق-الغرب) كمؤسسة ثقافية ألمانية خيرية لا تهدف إلى الربح وتأسس الفرع العربي الأول لهذه المؤسسة في بغداد يوم 19 مارس آذار 2004 . وتنظم المؤسسة مسابقة سنوية في الشعر العربي خصصت هذا العام فقط للشعر العراقي في الداخل على سبيل الاستثناء نظرا للظروف التي يمر بها العراق وستعلن أسماء الفائزين في ديسمبر كانون الأول القادم حيث توزع الجوائز في حفل بالفرع العراقي للمؤسسة بالتزامن مع طبع الدواوين الفائزة التي ستترجم إلى الألمانية العام القادم. كما نظمت المؤسسة بالتعاون مع معهد جوته الألماني الشهر الماضي أول مهرجان للأفلام الألمانية في العراق تحت عنوان (السينما تنهض من الخراب كالعنقاء). وزارت أمل الجبوري القاهرة الأسبوع الماضي حيث أقامت دار الأوبرا المصرية بالتعاون مع (اتحاد ديوان الشرق - الغرب) ليلة عراقية الاثنين تضمنت عرض فيلم وثائقي صور في الأيام الأولى التي أعقبت سقوط بغداد حيث كانت الحرائق تشتعل في المخطوطات ودار الكتب الوطنية. وشهدت الليلة العراقية أيضا أغنيات لشعراء عراقيين قدمتها غناء ولحنا المطربة اللبنانية جاهدة وهبة. كما قدمت 16 طفلة أعمارهن حول العاشرة عرض باليه تحت عنوان (المدينة المسحورة) لفرقة الفراشات الحالمة التابعة لدار ثقافة الأطفال من إخراج الفنانة محاسن الخطيب. وأعلن منظمو الحفل أن الخطيب مخرجة العرض «قتل شقيقها قبل أربعة أيام ولكنها أصرت على الحضور لتثبت أن العراقي يحيا ويبدع فنا راقيا رغم الحرب.» وقالت أمل الجبوري إن إعادة بناء بغداد القديمة سيتم وفقا لبرامج اقتصادية وهندسية وثقافية واجتماعية تضعها جمعية بغداد القديمة التي انتخب لرئاستها المهندس عادل الشيخلي العائد من منفى استمر ثلاثين عاما أما نائب الرئيس فهو الألماني كلاوس بيتر هازه مدير المتحف الإسلامي في متحف برلين «واختير شيخ بغداد العلامة حسين علي محفوظ رئيسا فخريا للجمعية.» وأضافت أن مشروع إعادة مدينة حلب القديمة استمر مدة عشرين عاما «ونأمل أن تتبنى متاحف العالم والجمعيات الثقافية الدعوة إلى إعادة إحياء مدن مهمة في التاريخ الإنساني والعربي مثل البصرة والموصل ومملكة ميسان وأور وسامراء التي تعتبر أكبر مدينة أثرية معروفة حتى الآن.» وأشارت إلى أن جمعية أصدقاء بغداد أحد أشكال مقاومة الفناء «الذي تاق إلى نقيضه جدنا جلجامش.» وتعد ملحمة جلجامش التي ترجمت إلى معظم اللغات أقدم ملحمة بشرية مكتوبة حيث يسعى بطلها إلى الحصول على عشب الخلود. وقالت «نحن مع شكل آخر من أشكال المقاومة الأدبية التي لا تنهج سوى الثقافة سبيلا سلميا لا يريق قطرة دم بريئة. المقاومة ليست بحاجة إلى تعريف لكن لها في العراق الآن توصيفا مزدوجا فبقدر ما يستفزنا الاحتلال كوجود عسكري يطوي مع صراخ الدبابات بروتوكولات تعيد خواطرنا الجريحة إلى حلف بغداد (في الخمسينيات) هناك أيضا إرهاب الظلاميين الجدد الذي يستلزم جهدا ووعيا يوقف استباحتهم للدم العراقي واسترخاصه بلا سبب. «الإصرار على البقاء أحد نماذج مقاومتنا لثقافة العنف التي أودت بحياة زملاء ماتوا شهداء وآخرين فروا للمنافي نجاة بعوائلهم التي تلقت تهديدات مرعبة فقط لأنهم يفكرون بعقل جميل.»