في الحلقة الماضية تم استعراض قصة هلاك خمسة علماء من أعضاء البعثة الدانمركية الستة بمرض الملاريا سنة 1763 م عند وصولهم اليمن وجاء ذكر تفاصيل موت أحد أعضاء البعثة وهو عالم الإحياء والمستشرق السويدي بيتر ( بطروس ) فورسكال الذي وافاه الأجل في بريم والذي كان قد اشتد عليه المرض فكان طوال الطريق من تعز إلى بريم مربوطا إلى ظهر بعير وكأنه كيس مملوء إلى نصفه , يسيل قيئه على جانب البعير وحين وصلت البعثة إلى بريم حمل على سرير خشبي من فندق المدينة إلى بيت مؤجر حتى يوفر له زملاؤه وسائل راحة أفضل فنام فورسكال ابن الواحدة والثلاثين عاما , في حوالي العاشرة مساء نوما عميقا لم يفق منه أبدا وذكرنا كيف اشترى له زملاؤه مكانا لدفنه ورفض الحمالين نقله إلى مثواه الا في الثلث الآخر من الليل خشية نقمة أهل البلد , كان موت هذا العالم خسارة كبيرة بالنسبة لبقية أعضاء الرحلة حتى وهو المتكبر النزق كما قال عنه رفيق دربه الألماني نيبور والذي كان قد قال لابنه بعد سنوات طويلة من الحدث بان فورسكال كان أغزرهم علما , وانه لو قدر له أن يعود إلى أوروبا حيا لأصبح أوسع علمائها علما, وامتدحه بأنه كان صبورا جلدا هازئا بكافة الأخطار والمصاعب وفي الحقيقة فإن كل من قرأ تراجيديا قصة موت هذا الرجل لابد أن يتأثر وبحسب الباحث الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم في كتابه روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية فقد تولى فورسكال بفضل نشاطه وجده ومثابرته في أيامه الأخيرة أعباء إضافية لم تكن في صميم المهمات الموكلة إليه , فقد كان كثير العطاء حين احتاجت البعثة إلى عطائه ففي فترة إقامتهم في مخا باليمن كان اثنان من زملائه وهم كل من نيبور وفون هافن يلازم سرير المرض فتولى بيتر فورسكال كافة مهام البعثة خصوصا ما يتعلق بالجمارك والتعامل مع رجالها وإن لم يكن موفقا بهذا الصدد , كما أعد جملة من القوائم التي اثبت فيها وحدات القياس والكيل والوزن وسك العملة وكتب مذكرة عن تجارة الذهب والعاج والمر العلاجي واللبان واللؤلؤ والبن , ولاحظ أيضا ان للعرب ولعا بشراء الحديد وأنهم يفضلون شراء مواسير البندقيات السميكة مخمسة الزوايا على المواسير المستديرة , وعلى وجه العموم نستطيع ان نقول بأنه لم يكن يلتزم حدود مسؤولياته فقط , بل كان يتقدم عن طيب خاطر لمساعدة الآخرين بمن في ذلك فون هافن الذي كان يكن له كراهية خاصة ثم يصل إلى ان الرجل كان مستهترا نزقا كما أسلفنا, فحين وصلت البعثة إلى اللحية وهي أول منطقة على الحدود دخلوا بعدها إلى اليمن , وجدوا ترحيبا حارا وضيافة كريمة من الأمير فرحان حاكم البلدة الذي حاول مبعوثه أن يدفع عنهم لصاحب المركب إيجار الرحلة من جدة إلى اللحية وتساءل حينها نيبور : هل يمكنك أن تصادف مثل هذه البادرة الطيبة تجاه مسافرين عرب في أي مكان في أوروبا ؟!! . وتصادف أن كان فورسكال في تلك الفترة يستعرض آلة المجهر التي يحملها معه , ولم تكن المنطقة قد عرفتها بعد , فطلب من موظفي الجمرك أن يأتوا له ب ( قملة حية ) .!! فأنكروا وجود هذه الحشرة على أجسادهم باعتبار ذلك إهانة لهم , ولكنه كما يقول حين عرض بعض المال مقابل حصوله عليها , سرعان ما استدار أحدهم ليستخرجها له من ملابسه ويقبض ثمنها أربعة قروش – وضع فورسكال القملة تحت المجهر فاغتبط الأمير فرحان وبعض الأعيان المحتشدين لحجم هذه الحشرة الضخم جدا , أما الذين تدافعوا لرؤيتها تحت المجهر واحدا بعد الآخر فقد أنكروها ورفضوا أن تكون من قمل أرضهم وقالوا لا بد أنها قملة أوروبية جلبوها معهم . أعتقد أهالي البلدة كما يقول فورسكال , أن هؤلاء الأجانب يهتمون بالقمل أكثر مما يهتمون بالبشر وأنهم جاءوا كتجار لجمع قمل العرب , فأتاهم أحد أهل البلدة في اليوم التالي بملء قبضته قملا لقاء مبلغ زهيد حدده بقرش فقط ثمنا للرأس الواحد .! , ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى ما لاحظه نيبور في فترة لاحقة ان العرب لا يستبدلون ملابسهم عند النوم , ولكنه يستطرد قائلا : ولا يعني ذلك انهم أكثر قذارة من الأوروبيين , فهم في حقيقة الحال يغتسلون أكثر منهم , ويضيف المؤلف بأن فورسكال لم يثر دهشة مستضيفيه بعرض القمل مضخما , بل عرض عليهم تلسكوبه الذي يقرب الصورة ولكنه يظهرها مقلوبة , فقد كانت تلك النظارة بدائية لم تتطور حتى ذلك الوقت , وكان من دواعي سرور الموجودين انهم راحوا يراقبون من خلال التلسكوب امرأة تمشي في السوق وأقدامها إلى أعلى دون أن تسقط ملابسها . السويدي بيتر فورسكال