في الجزء الأول من هذا المقال تحدثنا عن خط سير الرحالة الأوروبي كارستان نيبور (CARSTEN NIEBUHR) إلى جدة وغيرها من مدن جزيرة العرب، وذكرنا بعض المحطات التي توقف عندها بعد أن غادر عاصمة الدنمارك كوبنهاجن في العام (1761م) مع بعثة علمية مؤلفة من ستة أشخاص في رحلة استكشافية شاقة وخطيرة مات خلالها جميع أعضاء هذه البعثة باستثناء « نيبور». كان أعضاء هذه البعثة الدنماركية العلمية، هم: بيترفور سكال (من السويد) وهو طبيب وعالم نبات شهير، كاريستن كارل كريمر وهو عالم دنماركي، جورج ويلهلم بورنيفذ وهو رسام ألماني، كريستان فون هافن وهو دنماركي غليظ الطباع ورئيس البعثة، أخيرًا خادم البعثة (برغن) (1) بالإضافة إلى كارستن نيبور الألماني الأصل. وكان نيبور مسؤولًا عن الدراسات الجغرافية والفلكية والرياضيات التي ستقوم بها هذه البعثة التي أوفدها ملك الدنمارك فردريك الخامس إلى بلدان الشرق الأدنى وجنوبي الجزيرة العربية، لتقصي الأخبار والمعلومات العلمية عنها. هذه الرحلة التي كانت وجهتها جزيرة العرب بدءًا من بوابتها البحرية، مدينة جدة التي سيسافرون منها إلى اليمن والهند وغيرها. وعندما وصل نيبور ورفاقه الأوربيين إلى جدة لم يكن قد عُرِف أنه سبقهم إلي هذه المدينة من الغربيين إلا اثنان، المغامر الإيطالي لودفيكو دي فاريتما الذي قدم إلى جدة عام (1503م). (2). والشاب الإنجليزي جوزيف بتس الذي وصلها عام (1680م). (3). ولم يكن أي منهما قد أتى إلى جدة بغرض الاستكشاف والبحث العلمي، بل إن بتس لم يأت حتى بمحض إرادته؛ إذ إنه كان قد أُسِرَ في معركة حربية بحرية وتم سبيه من قبل بعض القراصنة، واشتراه منهم أحد الجزائريين، وأسلم بتس على يد هذا الرجل الذي اشتراه، وقدم معه إلى جدة في الطريق الى مكةالمكرمة لأداء مناسك الحج. وعاد بتس بعد الحج إلى الجزائر وظل فيها فترة طويلة قبل أن يعود إلى وطنه (4). أما الإيطالي لودفيكو دي فاريتما وهو أول أوروبي يأتي إلى جدة فلم يكن رحالة بالمعنى الصحيح للكلمة أو عالم أو مستكشف بل كان مغامرًا محبًا للأسفار، جاء إلى هذه المنطقة تقوده روح المغامرة والبحث عن المجهول. وبالمقابل كان نيبور ضمن أول فريق أوربي علمي استكشافي يأتي إلى جدة لأسباب علمية بحتة مما جعل من نيبور أول رحالة أوربي حقيقي يأتي إلى هذه المدينة، وكان ذلك في القرن الثامن عشر الميلادي عام(1761م). يقول الأستاذ أحمد محمود عن أسباب قدوم نيبور للمنطقة: « لم يوافق نيبور على الالتحاق بهذه البعثة؛ لأن الجزيرة العربية جذبته، بل لأنه يؤدي عملًا طُلِب منه القيام به»(5). وكنا في الجزء الأول من هذا المقال قد قدمنا ترجمة لحياة كارستان نيبور، وذكرنا خط سير رحلته ورفاقه من الدنمارك إلى تركيا فمصر، التي قضوا فيها وقتًا استطاعوا خلاله أن يقوموا بدراسة جغرافية ذلك البلد وتاريخه وغير ذلك، وسجلوا ملاحظات علمية كثيرة عنه، وقام نيبور بكتابة وصف تاريخي دقيق للقاهرة بَيّنَ فيه أن العرب يسمونها الفسطاط، كما بين أن القاهرة بُنِيتْ عام (358ه) على يد جوهر قائد جيش الخليفة الفاطمي المعز، وقال: إن هذه المدينة لم تُعتَبرْ ضاحية الفسطاط إلا عام (572ه)، بعد أن سوّرها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (6). وفي السويس استقل نيبور ورفاق بعثته باخرة حجاج توجهوا على متنها إلى ينبع التي وصلوها يوم 23 أكتوبر (1762م) حيث نزل فيها من باخرتهم الكثير من الحجاج واتجهوا إلى المدينةالمنورة بينما بقي الآخرون، ومنهم أعضاء هذه البعثة الدنماركية على متن السفينة للذهاب إلى جدة. ومن ينبع أبحروا إلى (أبحر) التي وصلوها بعد يوم من الإبحار في الثامن والعشرين من أكتوبر من عام (1762م). وقال نيبور عن أبحر: “إن مدخل هذا المرسى ضيق للغاية، لكنه آمن حتى إننا لم نُنْزِلْ المرساة واكتفينا بربط السفينة من الجهتين بحجارة كبيرة في أرصفة مرجانية” (8). وفي اليوم التالي، 29 أكتوبر (1762م) غادر نيبور ورفاقه أبحر إلى جدة التي وصلوها في الساعة الثانية من بعد ظهر نفس اليوم في جو عاصف ومغبر (9). بقي نيبور وأعضاء بعثته أكثر من شهر ونصف في جدة قبل أن يغادروها إلى اليمن، وقال نيبور: “إن أهل جدة أظهروا الود له ولرفاقه. وقال نيبور: لم يساورنا الشعور بالخوف قط من سكان مدينة بقدر ما خفنا من سكان جدة قبل أن ندخلها، وذلك بعد أن رأينا الازدراء الذي يعامل به الأوروبيون في بعض المدن العربية الأخرى، لكن تبين لنا أننا على خطأ، فكنا نزور المقاهي والأسواق، ونتنزه قرب البحر وفي المدينة ومحيطها دون أن يتعرض لنا أحد» (10). جدة بعدسة ذاكرة نيبور أمضى نيبور ورفاقه ستة أسابيع في جدة في انتظار الوقت المناسب لإكمال رحلتهم إلى اليمن. وكان سبب تأخرهم هواء الرياح الشمالية. ويقول نيبور: “إن سفن شحن البن التي كانت ستقلنا في الرحلة الأخيرة جنوبًا، قد أخرتها الرياح المعاكسة وهي في طريقها من مخاوى إلى جدة”(11). يقول الأستاذ سمير عطا الله في كتابه (قافلة الحبر): “إن الكاتب الدنماركي ثور نكيلد هافن يصف فترة بقاء نيبور ورفاقه في جدة قائلًا: لم يبد أي من أعضاء البعثة أي تذمر من هذه الإقامة القسرية؛ إذ بعد ما تعرضوا له من مضايقات قبل وصولهم إلى جدة أدهشهم هنا في جدة، الود الذي أظهره الناس، وللمرة الأولى استطاعوا أن يسيروا في الشوارع، وأن يزوروا المقاهي كما يشاؤون» (12). وقال هافن: إن أهل جدة لم يعتبروا وجود الأوربيين بينهم إهانة كما اعتبره غيرهم من أهل بعض المدن الأخرى، بل كانوا على كثير من الود وشيء من الفضول، وبيّن أن نيبور نصب إسطرلابه في قصر الباشا الذي كانت له اهتمامات فلكية هو أيضًا. تحدث نيبور في كتابه: (رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها) بإسهاب عن مدينة جدة التي كان هو ورفاقه في أشد الخوف من سكانها حتى اكتشفوا خطأ ذلك الظن. عن ذلك يقول نيبور: “تبين لنا أننا على خطأ” (13). وعن إقامته في جدة يقول نيبور: “زرنا المقاهي والأسواق وتنزهنا قرب البحر وفي المدينة ومحيطها دون أن يتعرض لنا أحد”. ويقول نيبور عن بعض الرسائل التي كانوا قد زُوِدُوا بها من مصر لبعض أهل جدة: «وساعدتنا رسائل التوصية التي حملناها، فقد أوصى بنا السيد دى غابلر الباشا حاكم جدة والذي يعرفه من القسطنطينية. وكنا نحمل رسالتي توصية من تاجرين في القاهرة إلى أكبر تجّار جدة، وأخرى من شيخ إلى قاضي المدينة، وهذا الشيخ هو كاتب أحد كبار علماء الجامع الأزهر في القاهرة، ولم نكن نتوقع الكثير من رسالة التوصية التي زودنا بها الشيخ، لكنها أفادتنا أكثر من الأخريات». وقال نيبور: “إن هذا الشيخ الأزهري كان قد ساعدهم في التمرن على اللغة العربية، وتعلم منهم في المقابل استخدام المجهر، وتتبع الأفلاك في السماء، وتحدث نيبور عنه بإيجابية شديدة؛ إذ يقول عنه: «إنه رجل شريف مؤمن وصديق وفيّ لغيرِهِ من الرجال». وقال نيبور: إن هذا الشيخ تعلم الرسم منه. كان لنيبور خادم يوناني أحضره معه، هو الذي قام بتسليم هذه الرسائل بأمر من نيبور، ما عدا رسالة الباشا التي سلمها له نيبور شخصيًّا. وكان الباشا يحسب نيبور يميل نحو علم الفلك، وأراد منه أن يحضر ساعته الشمسية ويقيس ارتفاع الشمس أمامه، وطلب منه إعطاءه وصفًا مفصلًا للآلة، وطلب من أحد العلماء احتساب خط عرض جدة استنادًا إلى ارتفاع الشمس الذي راقبته» (14). وعن مكان سكن البعثة في جدة، يقول نيبور: “وزرنا منازل عدة منذ اليوم الأول، واستأجرنا واحدًا كبيرًا يقع على البحر”. وفي اليوم الأول من نوفمبر من عام (1762م) نقل نيبور ورفاقه متاعهم من الباخرة إلى اليابسة، وكانت إجراءات دخولهم مسهلة كما يصفها نيبور، وكان ذلك تاريخ بداية مدة إقامتهم في جدة. تحدث نيبور عن مقبرة أمنا حواء في جدة وقال: “إن المصادر العربية ترى أن وجودها منذ الزمن القديم في نفس المكان بحسب المصادر التاريخية العربية يدل على أن مياه البحر المحيطة بجدة لم تتراجع أو تراجعت بقدر بسيط. إلا أن لنيبور رأيًا آخر في هذا الشأن حيث يرى: أن مياه البحر تعرضت إلى تغيرات عدة حيث وجد في شمال غرب المدينة قرب قبر حواء (المزعوم) تلالًا عالية تكثر فيها الأصداف وأحجار المرجان المتحجرة أو المدفونة في الرمال، ويكفي أن نراها وأن نقارنها مع صخور المرجان الموجودة بكثرة تدريجيًّا في هذا المكان. ويقول نيبور: “إن جدة تتوسع أكثر فأكثر نحو الغرب”. وعن مستوى الماء في الميناء فيقول: «إن مستوى المياه في المرفأ منخفض للغاية، حتى إن المراكب الصغيرة تضطر لانتظار المدّ لنقل البضائع إلى اليابسة أو لتحمّلها». ويقول نيبور: “إن مياه البحر على شواطئ جدة لا تحتفظ بالارتفاع نفسه طوال فصول السنة، وإنما ترتفع تدريجيًّا من شهر نوفمبر وحتى شهر أبريل، حين تهب الرياح الجنوبية، ثم تنخفض أثناء الأشهر الستة الأخرى، حين تهب رياح الشمال. ولا يظهر الفرق بشكل عام، لكن حين وصلت إلى جدة، رأيت المسافة بين المرفأ الكبير ومرفأ السفن الشراعية جافة خلال الجَزَّرْ، وعندما حان موعد رحيلنا، وجدت المياه تغطي المكان باستمرار كما تغطي المياه حين يرتفع مستواها سهلًا، يقع في الجنوب خارج المدينة، وبعد أن تتبخر بفعل حرارة الشمس المرتفعة تترك ورائها ترسبات من الملح، زد على ذلك أن ضواحي جدة رملية وغير صالحة للزراعة” (15). قام نايبور برسم خريطة لجدة، ولكنه قال: “إن أجزاء منها خاصة باتجاه باب مكة ليست بالدقة التي يتمنى؛ لأنه لم يسمح له بالذهاب إلى تلك المنطقة لأسباب ذكرها. وقال إنه لم يقس طول السور إلا الجزء الواقع من جهة البحر. وحدد في هذه الخريطة موقع جزء من سور جدة. وقد أسقط نيبور على هذه الخريطة الأماكن التالية: 1.منزل الباشا 2. باب شريف 3. باب جديد 4. باب مكة 5.مراقب قرب الدرب المؤدي إلى مكة 6. سهل 7. مدافن المسيحيين 8. برج تهدم كليًا 9. مرفأ السفن الحربية 10.المنزل الذي نزل هو فيه 11. الجمارك 12. منزل القاضي 13. مقبرة أمنا حواء 14. تلال عالية مغطاة بالأصداف وأحجار المرجان 15.مرسى السفن القادمة من السويس والهند. هذه الخريطة التي رسمها نيبور مع بساطتها، فإنها تعتبر في غاية الأهمية؛ لأنها رُسِمتْ من قبل عالم متخصص، جاء لمدينة جدة ضمن فريق علمي، ورسم خريطتها في وقت لم يكن لهذه المدينة خرائط معتمدة كثيرة. وعندما تُقارن هذه الخريطة بالصورة التي رسمها البرتغاليين لجدة حين حاولوا احتلالها فإننا نجد تشابهًا كبيرا بينهما باستثناء ما فعلته عوامل الزمن من تغير لحجم هذه المدينة العريقة. هذه قبسات من ملامح مدينة جدة كما سجلتها عدسة ذاكرة الرحالة الأوربي كارستان نيبور عندما قدم إلى هذه المدينة العريقة للسفر منها إلى بقية محطات رحلته في اليمن والهند وغيرها من البلدان والدول، هو ورفاقه أعضاء أول بعثة أوربية علمية تأتي إلى جزيرة العرب بغرض البحث العلمي والاستكشاف، واختار أعضاء هذه البعثة العلمية جدة لتكون أول محطة يتوقفون فيها؛ نظرًا لموقعها الاستراتيجي في منتصف الساحل الشرقي من البحر الأحمر قبل أن يستكملوا رحلتهم إلى بقية المناطق التي أتوا لزيارتها والتعرف عليها. غادر نيبور ورفاقه جدة في الثالث عشر من ديسمبر من عام (1762م) متوجهين إلى (مخا) في اليمن على متن سفينة كانت قد جاءت إلى جدة قادمة من عُمان من النوع الذي كان يُسمى (طرّاد) وقد وصفها نيبور بقوله: “هذا المركب أشبه بعربة مكشوفة منه بسفينة، إذ لا يتعدى طوله سبع قامات وعرضه قامتين ونصف القامة، ويفتقر إلى سطح، كما لم أرى فيه مسمارًا، بل أخشابًا رقيقة وكأنها مخيطه ببعضها، وقد نزعت صواريه ووضع أرضًا لإصلاح هيكله”. ويصف نيبور الأسرّة التي سينامون عليها خلال الرحلة على متن هذا المركب فيقول: «وكانت أسرّتنا، وهي عبارة عن قاعدة مربعة ومستطيلة، محشوة بحبال من قش، وقد علّقت فوق الصناديق والرزم، فكانت لنا مجلسًا خلال النهار ومكانًا للنوم في العراء عندما يحل الليل، وخصصت في مقدمة السفينة زاوية صغيرة لطهو الطعام ولتحضير الخبز. ونظرًا لأن هذا المركب كان متوجهًا إلى الحديدة فقد قرر نيبور ورفاقه أن يذهبوا إلى (مخا) برًّا بعد وصولهم (الحديدة). وهكذا بدأت المرحلة الثانية من رحلة نيبور ورفاقه من أعضاء البعثة الدنماركية إلى جزيرة العرب. وهي المرحلة التي سيموت فيها معظم أعضاء هذه البعثة العلمية، ويبقى نيبور وحده حيًا، ويؤلف كتابًا عن هذه الرحلة المهمة، ويصبح مرجعًا علميًّا أساسيًّا لكل رحالة أوروبي يأتي إلى جدة خاصة أو المنطقة بشكل عام بعد صدور هذا الكتاب القيّم. الهامش: 1- عطا الله، سمير: قافلة الحبر، دار الساقي في بيروت، الطبعة الثانية، 1998م، ص/19 2- دي فاريتما، لودفيكو: رحلة فاريتما ترجمة وتحقيق د. عبدالرحمن الشيخ، الهيئة العربية العامة للكتاب، القاهرة، (1944م)، ص/36 3- الرحلات 4- عطا الله، سمير، قافلة الحبر، ص/ 5- محمود، أحمد: الرحلات المحرمة، ص / 48 6- نيبور، كرستان: رحلة إلى شبه الجزيرة العربية، ترجمة عبير المنذر، الانتشار العربي، بيروت،(2007م) ص/91 7- المصدر السابق، ص/225 8- المصدر السابق، ص/229 9- المصدر السابق، ص/229 10- نيبور، كرستان، المصدر السابق، ص/231 11- عطا الله، سمير، قافلة الحبر، المصدر السابق، ص/22 12- المصدر السابق، ص/22 13- نايبور، مصدر سابق، ص/231. 14- نايبور، مصدر سابق، ص/232. 15- نايبور، مصدر سابق، ص/234.