منذ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ظهرت حاجته للاتصال بالآخرين لإشباع حاجاته وتحقيق رغباته بما يكفل تبادل المنافع والمصالح وهي ضرورة تفرضها طبيعة الحياة الاجتماعية بكل مقوماتها وعناصرها وهي أمر حتمي لتلبية احتياجات الفرد والمجتمع . وتحدث فجوة الاتصال بين الأفراد نتيجة لاختلاف الخبرات والقيم والميول والاتجاهات وكذلك لاختلاف النظام الاجتماعي والثقافي والإدراكي مما يؤدي إلى الصراعات والمشكلات . ومعظم المشكلات تكون شرارتها الأولى ناشئة عن الكلمات والألفاظ النابية أو الاتهامات الخاطئة أو التصرفات الحمقاء التي تعمل على جرح مشاعر الآخرين والحط من قدرهم ومكانتهم بطريقة مقصودة أو غير مقصودة. وهي تعمل على تفريق الجماعات وهدم العلاقات وتفكك الأسر وقطع الأرحام والصداقات وهي للأسف تستشري في مجتمعاتنا الحالية استشراء النار في الهشيم ، والتي سنكب بسببها على وجوهنا في النار وكل ذلك من حصاد ألسنتنا التي أطلقنا لها العنان فراحت تعربد وتحطم كل ما بنيناه من علاقات . ونسينا قيم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يحث على ضبط اللسان وحسن استخدام الكلمات وحديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري. وذلك لأن الكلمة السيئة - مشافهة أو كتابة - تؤذي الآخر وتحطم مشاعره وتجرح كبرياءه وتدخل صاحبها في النفاق والغيبة والنميمة بل وتؤدي إلى الهلاك . وقد حذر الإسلام من التسرع في الكلام وكيل التهم للآخرين. ولكن لنفرض جدلا أن إنساناً قد غلبه شيطانه وأوقعه في الخطأ .. فهل يستمر في علاقاته مع شيطانه ويستمرئ الخطأ.. ويصم أذنيه عن كل حق؟؟ أليس هناك سبيل للإصلاح وإعادة الحق إلى الصواب ؟ لماذا لا يعترف المرء بخطئه ويتنازل عن غروره وكبريائه ويعتذر للآخرين عن أخطائه؟ لماذا الاستمرار في الخطأ والإصرار عليه والانسياق تحت وطأة النفس الأمارة بالسوء ؟ أليس هناك طريق آخر لمراجعة النفس ومحاسبتها قبل أن تحاسب؟ يقول كين بلانشارد - مؤلف (كتاب اعتذار الدقيقة الواحدة)- (دقيقة واحدة من تصارحك مع نفسك تفوق في قيمتها أياما أوشهورا أو سنوات تقضيها في خداعها) ويضيف: (إذا انتظرت فترة طويلة قبل أن تعتذر فسيرى الناس عدم اعتذارك على أنه رغبة في إلحاق الأذى بالآخرين). لذا فإنه من الرشد والصواب السعي لإجراء الصلح وأخذ مشورة البطانة الصالحة من ذوي الخبرة والرأي لإنهاء الصراع وقطع الطريق على من هم - في مقام من يزين للإنسان سوء عمله فيراه حسناً ، فيوقعونه في شرور متلاحقة وآثام لا نهاية لها فالذين تردهم الملائكة عن العرض يوم القيامة إنما هم الذين يسترسلون في الغي ويقال للرسول صلى الله عليه وسلم: إنهم قد بدلوا ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقا) رواه ابن ماجة . فأهل الرشد والصواب قادرون على بذل الجهد للإصلاح بين المتخاصمين ولو لجأوا إلى الكذب وخاصة بين الزوج والزوجة للإصلاح بينهم لان عدم الإصلاح يعني توسيع دائرة الخلاف بين المتخاصمين وشمول أفراد آخرين من كل جانب وبذلك يزيد التوتر في العلاقات وهدم للصداقات، وتزداد الأخطاء في التعاملات وينشأ التوتر والقلق الذي يقض مجمع المتخاصمين ليلاً ويفسده نهاراً ، بل إنها سبب في قلة ألإنتاج وانعدام الإبداع. ولكن أي قلب هذا الذي يحمل حقداً وغلاً لأخيه المسلم فلا يغفر الله له ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن أبواب الجنة تفتح يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل من لا يشرك بالله شيئا إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : أنظروهما حتى يصطلحا) رواه مسلم أي إعطائهما فرصة لمحاسبة النفس والرجوع إلى الحق. فحتى لو أخطأنا فإن خير الخطائين التوابون فليس هناك إنسان كامل وعلى المرء العودة إلى جادة الصواب عن طريق ما تقرره لجنة إصلاح ذات البين من مجلس العائلة وكبار القوم همة وحكمة أو مجلس الإرشاد في العمل. إن نجاح الفرد في علاقاته الاجتماعية ووضع بصمته في الحياة تتوقف على معاملاته التي يطورها مع الآخرين ويحافظ على كسب مودتهم وثقتهم وحبهم له . فنوبل الذي ارتبط اسمه - أولاً - باختراعه (للديناميت) قد قرأ يوماً خبر نعيه في الصحف ، التي أخطأت بينه وبين أخيه الذي مات ، ونعتته بصانع الدمار فهب من غفوته وأراد أن يعدل من هذه البصمة التي لصقت به إلى بصمة أخرى جميلة رائعة فجاءته فكرة (جائزة نوبل للسلام) والتي ارتبطت باسمه إلى يومنا هذا . مع أن هناك جوائز آخري في الكيمياء والفيزياء والأدب .. وغيرها . ولكنها الطريقة التي أراد بها نوبل أن يراه بها الآخرون في دنياه وحتى بعد مماته. والرئيس الأمريكي ابراهام لينكون الذي عرف برهافة حسه وصدق عواطفه وحسن أخلاقه عندما جاءه عقيد كبير في الجيش يطلب إجازة لتأبين زوجته التي ماتت في إحدى المستعمرات البريطانية نهره وزجره لأنه قد جاءه في وقت متأخر من الليل وهو في غاية التعب ولم يكن في حالة تسمح له بالتروي وضبط النفس ولأن المعركة حاسمة وفاصلة ، ولكن عندما استيقظ صباحاً وأدرك الخطأ الذي ارتكبه لم يسر- في التدرج الوظيفي الذي سار به العقيد في الجيش وجميعهم رفضوا طلبه حتى وصل إليه - بل سار بنفسه لمنزله واعتذر منه، وأنتظره حتى يجمع حقائبه ثم أوصله بنفسه للميناء للسفر. نعم اعتذر له بكلمات تنم عن الأسف والندم لما بدر منه من تصرفات وكلمات غير لائقة لموقف إنساني لا يستدعي التأجيل . وها هو التاريخ يعيد نفسه والرئيس الأمريكي الجديد أوباما يعتذر أمام الملأ عن خطأ ارتكبه وكلمات قالها ضد جهاز الشرطة عندما اتهمهم بالإساءة للأستاذ الجامعي الأسود. مما أدى إلى ارتياح كبير في المجتمع الأمريكي وفي الأوساط السياسية كافة . وهكذا نرى فإن الاعتذار له موقع السحر في النفوس سواء كان في الوسط الوظيفي أو العائلي أو الاجتماعي بصفة عامة وينم عن كثير من الحكمة والقوة وهو سمة من سمات القادة والعظماء الواثقون من أنفسهم وقدراتهم المتصفون بالتواضع والأدب وهي وسيلة فاعلة لإعادة بناء العلاقات وكسب مودة واحترام وثقة الآخرين . وهي هنا لا تعني الكلمات الجوفاء التي تقال لمعالجة الموقف الراهن .. ولكنها المشاعر الحقيقية الفياضة التي يعبر عنها بالندم لما تم ارتكابه من أخطاء بل من الضرورة بمكان التكفير عنها بما يصلح الخطأ ويعيد الثقة فتعود المياه إلى مجاريها عذبة رقراقة تروي براعم الأمل وزهور الحب فتتكاثر سنابل الخير .. خاصة ونحن في شهر الخير الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، نسأل الله ان يلهمنا الرشد والصواب وكل عام وانتم بخير .