ثم تتحدّث هذه الآيات عن موقف المجرمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث هجروا القرآن الذي نزّله تعالى عليه لينذرهم ويبصّرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله والهداية من نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستورا لحياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقود البشرية إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). ثم تمضي الآيات لتبين أن لكل نبيّ أعداء يهجرون الدّين الحقّ الذي جاءهم به، ويصدّون عن سبيل الله. إن الله تعالى يهدي رسله وأولياءه إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). في زحمة هذه الحياة وتهافت الكثير من الناس عليها، وفي ظل مظاهر اللهو والفسق والفجور وانتشار الفساد وظهوره في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وفي ظل التنكّر لشرع الله وأحكامه واتّباع الهوى وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في ظلّ كلّ ذلك لن تفقد الأمة المسلمة عناصر الخير من أبنائها الذين اختاروا طريق السلامة باتباعها طريق الهداية القرآنية وتزودهم بالتقوى وإقبالهم على الله تعالى بعزم وصبر، يبتغون الزلفى والقربى إليه، في مختلف ما يبذلونه من الأعمال الصالحة، يرجون بذلك الربح الوفير والتجارة التي لن تبور، فهم ممن وصفهم الله تعالى في معرض المدح، وقوى عزائمهم للعمل واتباع الحقّ، فقال جل جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ). إنها ثلاثة عوامل وأسس اعتمدها الصالحون الخيّرون في دور الامتحان، وعلقوا عليها الآمال في ربح التجارةوالفوز برضا الله. العامل الأول: الإقبال على تلاوة كتاب الله في تدبّر آياته والاتعاظ بمواعظه والوقوف عند عِبرِه والعمل بتوجيهاته والرهبة عند وعيده والاطمئنان عند وعده. نعم تلك هي التلاوة النافعة التي تحدِث في نفسية المسلم تحوّلا محمودا، يجد أثره بردًا في قلبه وسلاما في حياته. العامل الثاني: إقام الصلوات المكتوبة بحدودها وقيودها والخشوع في أدائها وعدم التسويف والتشاغل عنها بمنصب أو مال أو تجارة ورياسة أو بأي شيء آخر من مشاغل الحياة الدنيا وزخارفها. العامل الثالث: مواساة البؤساء والفقراء بالأموال، ومعاونتهم برزق الله وماله، لا يبخلون به أو يكتنزونه، وكانت المواساة من هؤلاء الصالحين تختلف باختلاف المناسبات والظروف، سرا وعلانية، سرّا خشية الرياء والسمعة والشهرة، عَلَنا مع الأمن من ذلك، ليشيعوا الخير في مجتمعهم ليكونوا قدوة لغيرهم، فبلغوا بذلك أرفع مجالات الخير، وشملهم العليّ القدير بالعفو والغفران وكريم الجزاء. قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ). نعم عباد الله يوفيهم جزاء أعمالهم، ويزيدهم من الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن، ويغفر العظيم من ذنوبهم، ويشكر اليسير من أعمالهم. حقا إنها سعادة لا تعدلها سعادة، وفوز ما بعده فوز، يحرزه كلّ من سار على نهجهم وطريقتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. أما من كان على النقيض من سيرة هؤلاء الصالحين فهو ممن نسِي الله، فأنساه الله العمل الصالح، وهو ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال تعالى: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)). اللهم من علينا بالتوبة النصوح، اللهم اغفر ذنوبنا جميعها أولها وآخرها، اللهم كفر عنا السيئات اللهم من علينا بعفوك وكرمك يا عفو يا كريم ويا أرحم الراحمين، والله من وراء القصد