إذا كنا اليوم ننظر إلى السلف الصالح كقدوة يرى علماؤنا الأفاضل أنها أجدى بالاتباع من كل ما يحمله العصر من بوائق وفساد، فقد سبق أفلاطون هذا الفكر بقرونٍ بعيدة حين اعتقد أن نموذج، أو أصل، مدينته الفاضلة يمكن أن يوجد في الماضي البعيد، في عصر ذهبي موجود في فجر التاريخ، لأنه لو كان العالم يتحلل مع الزمن، إذن لوجدنا الكمال يزداد كلما عدنا أكثر صوب الماضي. *** كان أفلاطون يرى أن الإنسان هو صورة باهتة عن الأصل.. عن آبائنا وأجدادنا أو كما نُعبر عنه في أدبياتنا.. بالسلف. فالأب أو أصل الشيء المتدفق هو ما يسميه أفلاطون "صورته" أو "نمطه" أو "مثالُه".. والصورة أو المثال، كما يراه أفلاطون، ليس خيالًا، ولا حُلمًا، وإنما هو شيء حقيقي. إنه في الواقع حقيقي أكثر من كل الأشياء العادية التي تكون في تدفق، والتي برغم صلابتها الظاهرة، محكوم عليها بالانحطاط، لأن الصورة أو المثال إنما هو شيء كامل لا يفسد. *** وكما يُسمى الأطفال باسم أبيهم، فإن الأشياء الحسية، كما يرى أفلاطون، تُسمَّى باسم أصولها، باسم صورها أو مُثلها. فكما يتطلع الطفل إلى أبيه، فيرى فيه مِثاله، ونموذجه الأوحد، والتجسيد لتطلعاته الذاتية، والتجسيد للكمال، والحكمة، والثبات، والمجد، والفضيلة، والقوة التي خلقته قبل أن يبدأ عالمه، والذي يحافظ عليه الآن ويعضده، والذي يوجد بفضله، كذلك ينظر أفلاطون إلى الصورة أو المثل. *** وقد لخص أفلاطون خبرته الاجتماعية بتقديم قانون للتطور التاريخي. وطبقًا لهذا القانون فإن كل تغيّر اجتماعي إما أن يكون فسادًا أو انحلالًا أو تفسُّخًا. وكان أفلاطون يعتقد أن العصر الذي كان يعيش فيه هو أحد عصور الفساد العميق -وربما يكون أعمقها فسادًا- وأن التطور التاريخي يحمل مزيدًا من الانحلال والفساد. وكان يرى أن منع المزيد من الانحلال في المجال السياسي، يكون عن طريق تعطيل كل تغيّر سياسي. *** وللقضاء على ما يصيب الدول من فساد وانحلال وتفسخ ركز أفلاطون غايته في تأسيس دولة خالية من شرور كل الدول الأخرى، لأنها لا تتفسّخ، ولأنها لا تتغيّر. الدولة الخالية من شر التغيُّر والفساد إنها الأفضل والأكمل. إنها دولة العصر الذهبي التي لا تعرف التغيّر. إنها الدولة المُجمدة. إنها المدينة الفاضلة التي هي شيء شبيه بالسلف الأول. فالمدينة الفاضلة، أو "المثالية"، كما يراها أفلاطون، ليست مجرد خيال ولا حلم ولا "فكرة في ذهننا"، ولكنها من منظور ثباتها حقيقة أكثر من كل تلك المجتمعات المنحلة والمتدفقة، وعُرضة لأن تختفي في أية لحظة. *** المدينة الفاضلة.. هي مدينة مختلفة عن كل المدن في كل شيء.. في المستوى الحضاري والسكاني والأداء الخدمي الحكومي والخاص. المدينة الفاضلة.. مدينة يؤسسها الإنسان نفسه سواء كان مسؤولًا أو موظفًا أو عاملًا أو مراجعًا.. كبيرًا أم صغيرًا رجلًا أو امرأة.. مواطنًا أو غير مواطن.. وبكل ما تحمله كلمة «الفاضلة» من معان سامية... في الشارع.. في العمل الحكومي.. في العمل الخاص.. في المراكز التجارية.. عند المسجد.. في المطاعم.. في الأسواق.. في كل موقع نجد أن «الفاضلة» والمثالية والوعي والرقي تتجسد في كل وقت.. وبأرقى صورها. * نافذة صغيرة: (الشعب لا يمكن أن يكون قويًا ما لم يؤمن بالله وهو إله حي يستطيع أن يُحرِّك الخوف في القلوب التي استولت عليها الأنانية الفردية ويحملها على الاعتدال في نهمها وشرهها وبعض السيطرة على عواطفها).. أفلاطون. [email protected]