توصيل الطعام في رمضان فوضى وغياب تنسيق    ارتفاع أسعار النفط 1% وخام برنت يصعد إلى 73.79 دولارًا للبرميل    روسيا وأوكرانيا تتبادلان الاتهامات بخرق اتفاق حماية منشآت الطاقة    إسرائيل توسع عملياتها في غزة وتأمر بإخلاء أحياء سكنية    المملكة توزّع 1.784 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في مدينة سرمدا بمحافظة إدلب    البرهان يزور القصر الرئاسي السوداني ومطار الخرطوم    مركب الماضي دعوه يمضي    خادم الحرمين يوافق على تسمية مستشفى شمال بريدة باسم «مستشفى الملك سلمان»    في الشباك    إنجازات سعودية حافلة لقائد التحولات والإصلاحات الكبرى    إحالة طبيب للجهات الأمنية لمخالفته الأنظمة الصحية    عهد ووعد ووفاء    ساحة العدل.. قلب الرياض النابض    فن الدراما.. بين الانعكاس الاجتماعي والتأثير في التغيير    في الذكرى الثامنة لمبايعة ولي العهد    نائب أمير مكة المكرمة يترأس اجتماع لجنة الحج المركزية    نعيم بن مسعود.. رائد الحرب النفسية في الإسلام    القيادة تهنئ رئيس بنغلاديش بذكرى استقلال بلاده    ضبط باكستاني في الرياض لترويجه (3) كجم «شبو»    السعودية تدين انتهاكات إسرائيل وتدعو المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته    790 مليون ريال لمستحقي الزكاة عبر خدمة "زكاتي" للأفراد    مصر تستضيف البطولة العربية للجولف للناشئين والسيدات في مايو المقبل    أخضر الشاطئية يصل لنصف نهائي كأس آسيا    سوق الأسهم السعودية يغلق مرتفعًا    وكيل ألفونسو ديفيز يتهم مدرب كندا في التورط بإصابته    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ ما يزيد عن 14 ألف جولة خلال النصف الأول من رمضان المبارك    أبرز العادات الرمضانية في بعض الدول العربية والإسلامية.. دولة إيران    من الصحابة.. رملة بنت أبي سفيان رضي اللهُ عنها    "سعود الطبية" تعتمد أحدث تقنيات التصنيع الرقمي لتركيبات الأسنان    نجاح أول علاج بيولوجي لمريض يعاني من مرض جريفز    "عيد إثراء" 25 فعالية تجمع بين الإبداع والثقافة والبهجة    المرأة السعودية.. تمكين وريادة    ولي العهد.. بيعة ورؤية ونماء    زعيم الشرق الأوسط    الذكرى الثامنة لبيعة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان    إنجازات طموحة وبيئة محفزة للابتكار.. 412 مليار ريال مساهمة الصناعة في الناتج المحلي    العمارة السعودية.. تنوع ثقافي وجغرافي    الكوميديا السعودية تكتسح شاشات رمضان    في حفل جوائز الأبطال في لندن.. زياد المعيوف يتوج بلقب أكثر ملاكم ملهم لعام 2025    رئيس الإمارات وملك الأردن يبحثان العلاقات الثنائية بين البلدين    ملف الترشيح نال أعلى تقييم في تاريخ الفيفا.. مونديال 2034.. السعودية تحتضن العالم بإرث عريق ومنشآت عصرية    محمد بن سلمان.. قائد الرؤية وصانع التأثير    إضافة "غولدبرغ" لمجموعة "سيجنال" تثير جدلًا.. والبيت الأبيض: إدارة ترامب تكبد الحوثيين ثمن استهداف الملاحة البحرية    لجنة تقصي الحقائق تدرس إنشاء محكمة خاصة لمحاسبة الجناة.. سوريا.. «كويا» تدفع ضريبة التصدي لانتهاكات الاحتلال    نجاة طفل سقط من سيارة تحت عجلات مركبة أخرى    313 متهماً بالفساد وإيقاف 82 مشتبهاً    شغف لا ينتهي    مسيرة الوطن وعز الأمّة    حماية الطفل تبدأ باحترام رأيه    القاضي الخرجي رمز من رموز العدالة    ذكرى واستذكار الأساليب القيادية الملهمة    محمد بن سلمان وسنوات التجديد    محمد بن سلمان.. سنوات من التحول والتمكين    سيكولوجية الصوم    الوعي الذاتي وتأثير الأفكار    اصطدام طائرتين عسكريتين فرنسيتين خلال عرض جوي    بيعة تصنع التاريخ    رمضان يجمعنا.. مبادرة إنسانية تُنير قلوب الأيتام وتوحد أطياف المجتمع ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي: خيال المبدع والأوطان السعيدة

على رغم خوض أبي نصر الفارابي في الأمور الفلسفية كافة، من مدنية ودينية وفكرية بحتة، فإن اسمه ارتبط خصوصاً بثلاثة أمور: نظرية الفيض، ومحاولة الجمع إسلامياً بين رأيي الفيلسوفين (الحكيمين) أفلاطون وأرسطو، وتصوره للمدينة الفاضلة. والحال ان قارئ كتاب الفارابي الأساس «آراء أهل المدينة الفاضلة» يتضح له ان هذا الكتاب الفريد من نوعه في الفكر العربي القديم، يجمع تلك الأمور الثلاثة في حزمة واحدة. ونحن نعرف بالطبع ان الفارابي، الذي لقّبه العرب ب «المعلم الثاني»، باعتبار ارسطو هو «المعلم الأول»، تعرّض لأعنف درجات الهجوم من المتكلمين الإسلاميين، وعلى رأسهم الإمام أبو حامد الغزالي (في «تهافت الفلاسفة») الذي بدّعه وكفره في معظم مسائله، وتحديداً بسبب الكثير من الأفكار والطروحات التي جاءت في «آراء أهل المدينة الفاضلة». ومع هذا، وعلى رغم تحامل الغزالي، لا يزال هذا الكتاب حياً حتى اليوم، وعلى الأقل في جانبه السياسي - المدني، إذ يعتبر، في تاريخ الفكر، واحداً من تلك الكتب التي كان همّها ان تبحث للإنسان عن محيط فاضل يعيش منه.
وفي هذا الاطار، يقال عادة ان الفارابي، في بنائه ل «مدينته الفاضلة» انما سار على خطى أفلاطون الذي كان بنى عالماً مشابهاً في بعض أقوى فصول «الجمهورية». ومع هذا ثمة الكثير من أرسطو و «السياسة» في «آراء أهل المدينة الفاضلة»، إذ يمكننا القول ان الفارابي هنا أيضاً في هذا الكتاب، سعى الى التوفيق بين فيلسوفي العصر الاغريقي الكبيرين، توفيقاً، لم يكن على أية حال، موفقاً، الا في النتيجة النهائية التي أدى اليها: توليفة المدينة التي رسمها أبو نصر، والتي استلهم منها المفكرون ودرسوها وما زالوا يدرسونها. ورب قائل: المؤسف، طبعاً، هو انها لم تستلهم ممن كان يجب ان يعنيهم الأمر، أكثر: الحكام. فمدينة أبي نصر الفاضلة، ظلت خيالية حتى يومنا هذا، ما يجعلها، على رغم واقعيتها، تصطف الى جانب مدن توماس مور وكامبانيلا وبيكون وغيرهم.
ومع هذا، ليست المدينة الفارابية الفاضلة، خيالية ولا هي تقع في جزر استوائية ولا تنتمي أبداً الى عالم الخيال - السياسي. انها مدينة ممكنة، وتنطلق من تلك الفكرة البسيطة التي أخذها الفارابي عن أفلاطون، وأورثها لابن خلدون (أكبر مطوّريها وأهمهم): «انما البشر، على تنافرهم، محتاجون الى الاجتماع والتعاون». أي ان الإنسان، وفق تلخيص د. ألبير نصري نادر، لفكرة الفارابي: «لا يستطيع ان يبقى وأن يبلغ أفضل كمالاته إلا في المجتمع. والمجتمعات البشرية منها ما هو كامل، ومنها ما هو غير كامل. فالكامل منها ثلاثة: العظمى (وهي المعمورة)، الوسطى (وهي الأمة)، والصغرى (وهي المدينة). وغير الكاملة هي: القرية والمحلة والسكة والمنزل». أما المدينة الفاضلة، ف «شبيهة بالجسم الكامل التام، الذي تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها»، وكما ان «مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتّب بعضها لبعض، وتخضع لرئيس واحد، هو القلب، كذلك يجب أن تكون الحال في المدينة». وكما ان «القلب هو أول ما يتكوّن في الجسم، ومن ثم تتكوّن بقية الأعضاء فيديرها القلب، كذلك رئيس المدينة». والرئيس هو انسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها. فكيف يبدو للفارابي هذا «الرئيس» المستعار أصلاً من أفلاطون؟
إن الفارابي بعد ان يقول لنا ان «الرئاسة تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداً لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية»، يقول: «ان الرئيس الأول في جنس لا يمكن ان يرأسه شيء من ذلك الجنس»، و «أن ذلك الإنسان يكون إنساناً قد استكمل فصار عقلاً ومعقولاً بالفعل». والفارابي يحدد 12 خصلة فطر عليها الرئيس: «ان يكون تام الأعضاء جيد الفهم والتصور جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ويسمعه ثم ان يكون جيد الفطنة ذكياً وأن يكون حسن العبارة، يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره، محباً للتعليم والاستفادة غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح أن يكون محباً للصدق وأهله كبير النفس محباً للكرامة أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده محباً للعدل وأهله أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل». والحال أن الفارابي إذا كان يركز هنا، وفي التفصيل، على خصال المؤهل للرئاسة، فما هذا إلا لأنه لا يتصور مدينة فاضلة لا يحمل رئيسها صفات تقرّبه كثيراً من صورة الفيلسوف الذي به ينيط أفلاطون تسلم الحكم في «الجمهورية». والفارابي يلفت الى انه إذا «لم يوجد انسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط، ولكن وجد اثنان، أحدهما حكيم والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة». وإذ يصف الفارابي الرئيس والرئاسة على هذا النحو، يفصّل رأيه في المدينة الفاضلة، ولكن بالأحرى عبر تعريفه لمضاداتها، وهي «المدينة الجاهلة» (التي لم يعرف أهلها السعادة)، و «المدينة الفاسقة» (وهي التي تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة، ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدن الجاهلة)، و «المدينة المتبدلة» (وهي التي تكون آراؤها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها، غير انها تبدلت)، وأخيرا «المدينة الضالة» (وهي التي تظن السعادة، ولكنها غير هذه).
وإذا كنا هنا قد ركزنا على هذه الأمور، فما هذا إلا لأنها تشكل جوهر ما كان يرمي اليه الفارابي، والذي وصل اليه بعد تحليل طويل ومعمق، في كتاب، يقسم أصلاً قسمين: الأول فلسفي والثاني سياسي - اجتماعي، علماً أن القسم الأول كان مجرد تمهيد للثاني. في القسم الأول درس الفارابي الله وصفاته، ثم صدور الكائنات عن الأول (نظرية الفيض التي دانها الغزالي أساساً)، ثم الإنسان الذي «يتمتع بإرادة حرة الى جانب العقل، وظيفتها تحصيل السعادة له بواسطة أعماله العاقلة». أما في القسم السياسي، وهو الأهم كما أشرنا، والذي يطوّر فيه الفارابي آراء وأفكاراً عالجها وبالطريقة نفسها في كتاب آخر له هو «السياسة المدنية»، فإن المؤلف يبحث كما أشرنا في «المدينة الفاضلة ومضاداتها» انطلاقاً من نظام فلسفي أخلاقي سياسي متكامل، تأثر فيه بأفلاطون، كما تأثر في حديثه عن النفس بأرسطو، ولكن بعد ان وصل اليه من طريق شروحات الاسكندر الأفروديسي (ما شوّه أفكار أرسطو وجعل من الممكن للفارابي أن يحاول التوفيق بينه وبين أفلاطون!).
لعب كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» دوراً أساسياً في تاريخ الفكر الإسلامي، حتى وإن كان في قسمه الأول يخالف (وبخاصة في بحثه في مسألة «الفيض»، والتمييز بين الحكمة والشريعة - وهو تمييز حاول ابن رشد لاحقاً دحضه في «فصل المقال»، ومسألة قدم العالم في الزمان) ما جاء في تعاليم الإسلام، ما سهّل على الغزالي التصدي له، في شكل غطى على أمور مدينة جاءت لدى الفارابي، ولم يكن فيها، هي، ما من شأنه أن يخالف الإسلام. مهما يكن من أمر ذلك السجال الحاد بين الفارابي والغزالي، فإن الأول ظلت، ولا تزال، له مكانته، ولا يزال ما بقي لنا من كتبه الكثيرة، يشكل جزءاً أساسياً من التراث الإسلامي نفسه.
أبو نصر الفارابي (وهو محمد بن محمد بن طرخان) ولد في واسج في مقاطعة فاراب بتركستان، لأب من المفترض أنه كان قائداً عسكرياً للسامانيين. ودرس أولاً في بغداد على يد معلم مسيحي هو يوحنا بن حيلان ثم ارتحل بعد ذلك إلى حلب، بعد ان تشبع بدراسة الموسيقى والرياضيات والفلسفة والعلوم. استقر منذ العام 941م. في مجلس سيف الدولة في حلب، ومن هناك انطلق في سفرات عدة، قاده بعضها الى القاهرة. أما وفاته فكانت في دمشق في العام 950م. عن ثمانين عاماً. والفارابي الذي قال عنه هنري كوربان ان «نظريته في المدينة الفاضلة تحمل سمة يونانية باستلهامها الأفلاطوني، لكنها تتجاوب مع التطلعات الفلسفية والصوفية لفيلسوف اسلامي»، ترك الكثير من المؤلفات، بينها ما ذكرنا، اضافة الى «احصاء العلوم» و «كتاب السياسة المدنية» و «منطق أرسطوطاليس» و «كتاب الحروف» و «فصوص الحكم».
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.