يظلُّ النقد الأدبيُّ باختلاف هويته مُمتنَّاً ومعترفاً بالفضل لشخصياتٍ يونانيةٍ خالدةٍ في ذاكرة التاريخ، منها نبعت نظريات النقد اليوناني التي كانت بعد ذلك مرتكزاً أساساً للنقد الأدبي في الغرب. ولا شكَّ أنَّ صاحب المدينة الفاضلة (أفلاطون) واحدٌ من أهمِّ تلك الشخصيات، إذ يُعدُّ الأب الحقيقيَّ للنظرية النقدية الأشهر في تاريخ النقد كله، وهي نظرية (المحاكاة) التي طوَّرها فيما بعد تلميذه الأنجب (أرسطو). وقبل الحديث عن هذه النظرية والكشف عن مفهومها وأبرز الأسس التي قامت عليها لا بُدَّ من معرفة ماهية النظرية الأدبية في الدراسات النقدية والمقصود بِها، إذ هي -كما يُعرِّفها شكري عزيز في كتابه (في نظرية الأدب)- مَجموعةٌ من الآراء والأفكار المتسقة العميقة المترابطة، والمستندة إلى نظرية المعرفة أو فلسفة مُحدَّدة، وتَهتمُّ بالبحث في نشأة الأدب ووظيفته وطبيعته؛ ولذا فإنَّ كثيراً من الآراء التي تدور حول الأدب أو جانبٍ منه لا ترقى إلى مستوى النظرية؛ لأنَّها لا تستند إلى فلسفةٍ مُحددة، أو تفتقد إلى القوة والاتساق. وقد ظهرت نظرية (المحاكاة) أول نظرية في الأدب في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد صاغ مبادئها (أفلاطون) ومن بعده تلميذه (أرسطو)، وقبل هذا التاريخ بكثيرٍ نعثر على آراءٍ متفرقةٍ وأقوالٍ متناثرةٍ تدور حول طبيعة الأدب، وتتحدَّث عن وظيفته. والحقيقة أنَّ الصراع بين الشعر والفلسفة كان قد بدأ منذ القرن السادس قبل الميلاد، وذلك من خلال نقد الشعر والدفاع عنه على أساسٍ أخلاقي، ويُمكن القول إنَّ كلَّ هذه الآراء القديمة وذلك الصراع يشير إلى وجود آراءٍ نقديةٍ أخرى ربَّما لَم تصلنا، غير أنَّ كلَّ ذلك - إضافةً إلى أوضاع (أثينا) المنهارة- قد مهَّد الطريق لظهور آراء (أفلاطون) حول الشعر والشعراء والفنِّ عامَّة، هذه الآراء التي تُعدُّ البداية في تاريخ نظرية الأدب بأجمع. ولا خلاف بين المفكرين والنقَّاد أنَّ (أفلاطون) كان حكيماً وفيلسوفاً بارعاً، لكن آراءه التي تتصل بالأدب والفن ظلت مُحيِّرة ومثار تفسيرات عدةٍ عند الكثير من الكتَّاب والنقاد لقرونٍ طويلةٍ بعده. وتقوم نظرية المحاكاة عند (أفلاطون) على أنَّ كلَّ الفنون قائمةٌ على التقليد (المحاكاة للمحاكاة)، أي أنَّ المحسوسات على تغيُّرها تُمثِّل صوراً كليةً ثابتةً هي الأجناس والأنواع، وتتحقَّق على حسب أعدادٍ وأشكالٍ ثابتةٍ كذلك. فإذا فكَّرتْ النفسُ في هذه الماهيات الثابتة أدركتْ أولاً أنه لا بُدَّ -لاطِّرادها في التجربة- من مبدأ ثابت؛ لأنَّ المحسوسات حادثةٌ تكون وتفسد، وكلُّ ما هو حادثٌ فله علةٌ ثابتةٌ، ولا تتداعى العلل إلى غير نِهاية، وأدركتْ ثانياً أنَّ الفرق بعيدٌ بين المحسوسات وماهياتِها، فإنَّ هذه كاملةٌ في العقل من كلِّ وجه، والمحسوسات ناقصةٌ تتفاوت في تَحقيق الماهية، ولا تبلغ أبداً كمالَها، وأدركتْ ثالثاً أنَّ هذه الماهيات بِهذه المثابة معقولةٌ صرفة. وبناءً على ما سبق فإنه يلزم أن يكون الثابتُ الكاملُ أولاً، وأنَّ الناقص مُحاكاته وتضاؤله، وأنه لا يُمكن أن يكون الكاملُ الثابتُ قد حصل في العقل بالحواسِّ عن الأجسام الجزئية المتحرِّكة، فلا يبقى إلا أنَّ الماهيات جَميعاً حاصلةٌ في العقل عن موجوداتٍ مُجرَّدةٍ ضروريةٍ مثلها، وهنا تؤمن النفس بعالَمٍ معقولٍ هو مثال العالَم المحسوس وأصله، فالمثال هو الشيء بالذات، والجسم شبح المثال، والمثال أنَموذج الجسم أو مثله الأعلى، متحققةٌ فيه كمالات النوع إلى أقصى حد، بينما هي لا تتحقَّقُ في الأجسام إلا متفاوتة. وينطلق أفلاطون في هذه النظرية من إيمانه واستناده إلى الفلسفة المثالية التي ترى أنَّ الوعي أسبق في الوجود من المادة، فهو يرى أنَّ الكونَ مُقسَّمٌ إلى عالَمٍ مثالي، وعالَمٍ مَحسوسٍ طبيعيٍّ مادي، فالعالَم المثالي يتضمَّن الحقائق المطلقة والأفكار الخالصة والمفاهيم الصافية النقية، أمَّا العالم الطبيعي فهو مُجرَّد صورةٍ مُشوَّهةٍ ومزيفةٍ عن عالَم المُثُل الأول الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وبتعبيرٍ آخر فإنَّ العالَم الطبيعي مُحاكاةٌ لعالَم المُثُلِ والأفكار الخالصة؛ لذلك فهو ناقصٌ ومُزيَّفٌ وزائل. [email protected]