يحلل د.عبدالله السفياني فكرة تأثير الدوافع النفسية والاجتماعية على اختيار الفقيه؛ ومدى خضوع الفتوى لاعتبارات الضغوط النفسية والبيئية التي ينتمي لها الفقيه؛ فاستناداً إلى دراسات تحليل الشخصية التي تأخذ حيزاً كبيراً في علم النفس يشير د.عبدالله السفياني في مقالته: «حجاب الرؤية» إلى أن أنماط الشخصية ( انطوائية – انبساطية – عدوانية – خجولة - عقلانية - مفكرة عاطفية – حسية – حدسية – ثورية – متمردة - مستقلة ...إلخ )، لها تأثير على الفقيه أو العالم في اختيار وترجيح قول دون آخر، أو في شعوره بقبول رأي والارتياح له؛ وذلك لأنه ألصق بطبيعته النفسية! وليس هذا من قبيل الهوى والتشهي بل هو أثر قد لا يدركه الفقيه. وقد يكون غائباً أو محجوباً عن رؤيته فيحتاج إلى طول نظر وتأمل وسؤال مستمر. ونتيجة لذلك يرى السفياني - مدير الموسوعة العالمية للأدب العربي- في تحليله لظاهرة اختيارات الفقهاء أن الشخصيات ذات النمط المتشدد الحاسم والمتصلبة في آرائها تميل تلقائياً إلى الأقوال والآراء التي تتسم بالشدة والاحتياط والتحفظ لتناسبها مع طبيعيتها النفسية، وفي المقابل قد تجد الشخصية المنفتحة والانبساطية تتجه للأقوال الأقل تشدداً وأكثر تسامحاً وهكذا. ولذلك فإن دراسة السير الذاتية للفقهاء والعلماء والمفكرين قد تكشف كثيراً من جوانب اختياراتهم الفقهية والفكرية تبعاً لما عرف من سلوكيات وانفعالات كان لها أثرها في الاختيار والترجيح. أثر البيئة على الفقيه وفي تعليقه على أثر البيئة الاجتماعية وسلطتها على الفقيه يقول السفياني في تصريح للرسالة: «إن الفقيه كغيره هو ابن البيئة الاجتماعية والتنشئة الاجتماعية التي عاش فيه وتعرض لمؤثراتها الثقافية والتربوية ومن الطبيعي جداً أن يكون هناك علاقة تأثير وتأثر بين الطرفين»، لكن الفقيه والمثقف عموماً يتميز -من وجهة نظر السفياني- عن غيره بإدراكه إلى حد ما بنوعية العلاقة التي تحكمه في عملية التواصل مع البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها. ويميز السفياني بين نوعين من السلطة المجتمعية التي تمارس دورها على الأفراد: فالأولى سلطة عفوية غير مباشرة هي عبارة عن تراكمات من العادات والتقاليد والأعراف تناقلتها الأجيال وشكلت مفاهيم لا يمكن التنازل عنها، ويعد الخروج عليها خطاً أحمر. وسلطة أخرى موجهة تستفيد منها في العادة السلطات السياسية سواء بالاستفادة من تراكمات الماضي أو من تكوين عادات وأفكار ومفاهيم اجتماعية عبر مؤسسات المجتمع التربوية وأبرز تلك المؤسسات التعليم والإعلام. ويؤكد السفياني أن حسابات السلطة الاجتماعية التي تقلق الفقيه ليست بجديدة على العمل الفقهي أو الدعوي فعلي رضي الله عنه كما في البخاري موقوفاً يقول: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ) ..!وفي مسلم لابن مسعود ( ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). ومن خلال الأثرين يرى السفياني أن الفقيه في علاقة حذر مع الناس/المجتمع، ومدى تعاطيهم مع ما يقوله، ومدى وعيهم وتقبلهم له، ولذلك قد يتوقف عن قول ما لأن السلطة الاجتماعية المتوارثة لن تقبل به ويكون فتنة وذريعة، وقد يقدر فقيه آخر خلاف هذا التقدير ويرى أن الخطأ الاجتماعي الذي يلبس اللباس الشرعي يجب أن يصحح مهما كلف الأمر، وآخر قد يستعين بفقه التدرج والمرحلية وهكذا. وعن سؤال الرسالة حول كيفية مواجهة الفقيه للسلطة الاجتماعية يذكر السفياني أن القضية ليست قضية مواجهة بمعناها السياسي والاجتماعي المتداول بل هي فكرة تعاط بالدرجة الأولى وكيفية تعامل، ولذلك ستجد من الفقهاء من يتعامل ويتعاطى معها بفكرة المكاشفة والصدام كما فعل ابن تيمية رحمه الله في فتاواه التي كان لها دور في سجنه. وقد يتعامل معها فقهاء آخرون بالخضوع والتسليم مخافة الفتنة وسداً للذريعة، وبين الطرفين ستجد مواقف أخرى تقترب من هذا تارة ومن ذاك تارة أخرى. ويشدد د.عبدالله السفياني على أهمية إدراك الفقيه لملابسات السلطة بأنواعها، وحاجة الفقيه إلى قراءة مطولة في علم الاجتماع وعلم نفس الجماهير وما يدور في هذا الفلك خاصة كلما كان له تأثير في اختياراته الفقهية وآرائه الفكرية وحتى لا يتحول إما إلى صدى لصوت المجتمع أو أداة في يد السلطات المختلفة السياسية منها أو الاجتماعية أو غيرهما. إدراك التحيزات وتساءلت (الرسالة) عن انعكاسات إدراك هذه التأثيرات على الفقيه وعلى المستفتي وعلى المجتمع، فأجاب السفياني بأن إدراك الفقيه والمثقف بوجه عام للتأثيرات النفسية والمجتمعية على الفكر والرأي هي بوابة الاستقلال الفكري، وامتلاك الحرية الحقيقية التي تمكن الفقيه من الرؤية المجردة إلى حد كبير من تحيزات النفس لنزعاتها أو للنزعات الاجتماعية. ورغم أن هذا التحرر من هذه التأثيرات لن يصل بالفقيه ولا غيره إلى صفة الكمال لأن كثيراً منها غائرة جداً، والبشر كلهم خاضعون لها أدركوها أو لم يدركوها إلا أنه كلما قويت دائرة الإدراك لدى المفتي ضاقت دائرة الهوى الخفي كما يسميه ابن تيمية رحمه الله. وعن انعكاسات إدراك هذه التأثيرات على المستفتي فإنه يتحقق عنده مبدأ الإعذار ورفع الملام عن ما يسمعه من اختيارات وفتاوى ورؤى وليس كما يظنه البعض بأنه يقدح في ذهن المستفتي سوء الظن بالمفتي. لأن ذلك مجاله الهوى الظاهر الذي يتبع فيه الفقيه الباطل وهو يعلم أنه باطل لأجل مصلحة عاجلة يحققها، وليس هذا هو ماقصدناه وإنما قصدنا إلى تبيان ما لا يكاد أن يدركه الفقيه من نفسه وعادات مجتمعه فيتلبس به مع أنه في ذلك مجتهد ومريد للحق متبع له.