هل سحبت الفضائيات الدينية والزخم الديني والدعوى على شبكة الإنترنت البساط من تحت أقدام المؤسسات الدينية؟ هل مازال للمؤسسات الدينية تأثيرها في واقعها بعد أن امتد بها العمر عقوداً وقروناً من الزمن؟ في الإصدار الثلاثين من كتابه الشهري تناول مركز المسبار للدراسات والبحوث بدبي- وهو مركز مستقل متخصص في دراسة الحركات والتيارات الإسلامية – المؤسسات الدينية الرسمية في العالم العربي والإسلامي ومدى تأثيرها وتأثرها بنوازل محيطها ومستجدات واقعها على طول تاريخها وبخاصة في العصر الحديث، الإصدار تناول أزمة بعض المؤسسات الدينية وإشكالات دورها ومهماتها، والتحديات الجديدة التي تواجهها مثل الفضائيات الدينية والزخم الديني والدعوى على شبكة الإنترنت الذي يرى فيه البعض سحباً للبساط من تحت أقدامها. وفي أحد مباحث هذا الإصدار يتناول الدكتور سليمان الضحيان الأكاديمي والباحث في جامعة القصيم في دراسته (هيئة كبار العلماء في السعودية: التأسيس والوظيفة) المؤسسة الدينية السعودية، في أحد أهم تشكيلاتها، مؤكداً منذ البداية على العلاقة التاريخية والتحالفية بين السلطة السياسية والدينية في المملكة منذ عهد الدولة السعودية الأولى وحتى الآن، كما يقرأ تطور مسار هيئة كبار العلماء منذ التأسيس، والعلاقة بالمؤسسات الدينية الأخرى، ودورها وطرق اختيار أفرادها، واحتمالات نقدها، وتأثيرها الذي امتد في أحيان كثيرة خارج حدود المملكة. وخلص الضحيان إلى أن المقارنة بين حضور الهيئة حين تأسيسها وحضورها اليوم، تظهر فارقاً هائلاً من حيث التأثير، والمكانة، والحصانة. "الرسالة" حاورت الضحيان-حول دور هيئة كبار العلماء في الحراك الثقافي السعودي، ومدى تأثيرها على الواقع الديني والسياسي، وعلاقتها ببعض الأحداث التاريخية المحلية، كما كشف الحوار عن علاقة الهيئة بالسلطة السياسية في البلاد، وعن أبرز المعوقات والتحديات التي تواجه الهيئة في نطاق تأثيرها على الواقع العام، ومستقبل حضورها في قادم الأيام: المجتمع السعودي يمر بمرحلة تحولات ثقافية وفكرية واجتماعية لا يخطئها المراقب. كيف تقيم دور الهيئة في هذه التحولات؟ هيئة كبار العلماء مؤسسة رسمية، ومهمتها كما ينص نظامها الرسمي أن "تتولى إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر من أجل بحثه، وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه، كما تقوم بالتوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة؛ ليسترشد بها ولي الأمر، وذلك بناء على بحوث يجرى تهيئتها وإعدادها"، وبحسب نظامها هذا يكون عملها مقيداً فيما يحال إليها من ولي الأمر – وهو التعبير الذي يشير للسلطة في السعودية – وهذا التقييد لعملها ساهم في الحد من دورها في التحولات الفكرية والاجتماعية في وقعنا المحلي؛ فهي لا تملك المبادرة بالمشاركة في قيادة التحولات في الحراك الفكري والاجتماعي في المجتمع ابتداءً، بل هي عملها منوط بما يحال إليها من السلطة بناءً على نظامها المؤسس لعملها، وربما تتضح هذه الحقيقة إذا ما قورن بين عمل هيئة كبار العلماء وعمل اللجنة الدائمة، فاللجنة بما أنها تتولى الإفتاء على ما يرد عليها من الجمهور فهي بلا شك أكثر مساهمة في التحولات التي يعيشها المجتمع. تقصد أن تقول أن نظام الهيئة ولجنتها الدائمة يجعلها تتجه إلى الخدمات الفردية وفتاوى العبادات والمعاملات والعقائد من الأفراد أو المؤسسات الحكومية؟ هل لهذا أثر على تقييد تفاعل الهيئة في القضايا الاجتماعية والفكرية العامة بشكل سريع وفعال؟ سؤالك فيه خلط بين عمل الهيئة، وعمل اللجنة الدائمة؛ فعمل الهيئة مقتصر على ما يرد عليها من أسئلة وطلب استشارة من السلطة السياسية، كما ينص نظامها. أما عمل اللجنة الدائمة فيكمن في أمرين؛ الأمر الأول: إعداد البحوث في الموضوعات العامة التي يبت فيها مجلس الهيئة، والأمر الثاني: الإجابة على استفتاءات الجمهور، وبناءً على هذا التفريق بينهما يصح التساؤل عن ضعف تفاعل اللجنة الدائمة في القضايا الاجتماعية والفكرية العامة بشكل سريع وفعال، وأنا أعزو هذا الضعف إلى أن اللجنة نفسها ليس من مهمتها المعلنة المبادرة والتصدي للقضايا الاجتماعية والفكرية من تلقاء نفسها، بل الأمر منوط بالجمهور المستفتي؛ فعملها استقبال أسئلة الجمهور والرد عليها، يبقى أن هناك جهوداً فردية لبعض أعضاء اللجنة في مواكبة الحراك الثقافي والاجتماعي بتأليف الكتب كما كان يصنع الدكتور بكر أبو زيد، أو بالردود وإلقاء المحاضرات وعقد الدروس كما يصنع الآن الدكتور صالح الفوزان . الهيئة والقرارات السياسية ذكرت في دراستك -المقدمة لمركز المسبار- أن القرارات فيما يخص الأماكن المقدسة لا بد من أخذ موافقة هيئة كبار العلماء وعكس ذلك فيما يخص الجانب السياسي. لماذا هذا التفريق برأيك بين الجانبين؟ لا ينص نظام هيئة كبار العلماء على عدم خوض الأعضاء في السياسة، لكن من المتعارف عليه أن الأعضاء لا يتحدثون في السياسة في حواراتهم ومشاركاتهم الإعلامية، وتقتصر علاقة الهيئة بالسياسة بما يحال إليها من السلطة الحاكمة لإبداء رأيها فيه، وليس كل القضايا السياسية التي تهم الحكومة تطلب رأي الهيئة فيها، وذلك لأن السياسة والعلم بدهاليزها، وإدراك شبكة المصالح التي تتحكم بها تحتاج إلى ممارسة سياسية طويلة، ودخول في أعماق الدهاليز السياسية؛ وهذا لا يتوفر في أعضاء الهيئة؛ ولهذا من المتعارف عليه في مسيرة الدولة السعودية أن العلماء الشرعيين ينحصر دورهم في الجانب الديني، ويظل حضورهم ومشاركتهم في المشورة السياسية محدود جداً، وغالباً يقتصر طلب السلطة السياسية لرأي الهيئة في القضايا السياسية فيما له مساس مباشر بالجمهور، وهي القضايا التي تهم الرأي العام سواءً الرأي العام الداخلي، أو تمس الرأي العام الداخلي والخارجي كقرار مجيء القوات الأمريكية لتحرير الكويت والدفاع عن السعودية في حرب الخليج الثانية، خاصة بعد المعارضة الشديدة من الحركات الإسلامية خارج السعودية، ولا شك أن ما يخص الحرم والأماكن المقدسة هو تصرف ديني في المقام الأول قبل أن يكون سياسياً خالصاً، وأي تصرف في هذه الأماكن المقدسة دون سند ديني سيثير الرأي العام الإسلامي في العالم الإسلامي كله؛ ولهذا فمن الأهمية البالغة التي تصل إلى حد الضرورة أخذ رأي الهيئة في أي تصرف تقوم به السلطة السياسية تجاه هذه الأماكن من توسيع المسعى، أو نقل مقام إبراهيم ، أو غيرها من الأعمال. تقول إن "السلطة قلما تحتاج إلى قرار هيئة كبار العلماء"، لماذا؟ قلما تحتاج لرأي هيئة كبار العلماء فيما يخص القرارات السياسية التي لا تهم الرأي العام؛ كالعلاقة مع الدول، وعقد المعاهدات السياسية والاقتصادية، والانتساب إلى المنظمات الدولية، وعقد التحالفات، وذلك كما قلت لأن القرارات السياسية في مثل هذه الأمور تحتاج إلى تعمق في الممارسة السياسية، ومعرفة شبكة المصالح المعقدة التي تتحكم في العمل السياسي، وتقود إلى إصدار القرارات السياسية فيها، وهذه المعرفة بلا شك غير متوفرة في أعضاء الهيئة فمن البديهي ألا تحتاج السلطة إلى فتوى أو قرار من اللجنة في هذا الجانب. العلاقة مع الحكومات هناك إشكاليات تثار حول علاقة المؤسسة الدينية بالدولة. هل على المؤسسات الدينية في البلاد الإسلامية أن تلعب دور الداعم لقرارات الساسة من باب طاعة ولي الأمر خاصة في السياسة الشرعية أم لا بد أن يكون لها قراراتها المستقلة؟ أصلا لا تملك المؤسسات الدينية الرسمية في البلاد الإسلامية الاستقلال في القرار، وذلك لأنها مؤسسات رسمية، وهي في حقيقتها من بنية الدولة، ومن مؤسسات الدولة، فكيف تستقل في قرارها عن بقية مؤسسات الدولة؟ نجاح عمل الدولة يتم بتكامل عمل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، والمؤسسات الدينية الرسمية هي إحدى مؤسسات الدولة التشريعية في الدول العربية. وهل الاستشارة المقدمة من هيئة كبار العلماء معلمة أم ملزمة للمؤسسات الحكومية؟ وماذا سيترتب على ذلك في الحالتين؟ فيما يخص سياسات الدولة العامة فلا أعتقد أن الاستشارة المقدمة من الهيئة ملزمة للدولة، وذلك لأن لدى مجلس الوزراء هيئة خبراء تضم بين أعضائها بعض العلماء الشرعيين، ويكون رأي هؤلاء العلماء الشرعيين في هيئة الخبراء فيما يمس الجانب الديني من قرارات الدولة أحياناً أقرب للانسجام مع متطلبات القرار السياسي فيما يخص الأمور العامة، .أما فيما يخص الدوائر الحكومية فإن الاستشارة المقدمة لهم تكون من اللجنة الدائمة، وليس من الهيئة – فيما أعلم- وتكون ملزمة، لكن مما يلاحظه المراقب أن الدوائر الحكومية قلما تلجأ لاستشارة الهيئة ولجنتها الدائمة إلا في الموضوعات ذات الطابع الديني الخالص. حين تشارك المؤسسات الدينية في قضايا الواقع والمجتمع يقال إنها تتدخل في كل شيء وحين تنأى بنفسها تتهم بعدم المشاركة والفعالية. ما الدور المطلوب برأيك من المؤسسات الدينية؟ في اعتقادي أن وجود مؤسسة دينية في أي دولة من الدول العربية والإسلامية يعد ضرورة؛ فالدين هو المكون الرئيس في ثقافات المجتمعات العربية، وهو المنظم لحياة السواد الأعظم منهم، ولهذا فالناس بحاجة للإفتاء والإرشاد في أمورهم الدينية، وهنا يجب أن تكون المؤسسة الدينية حاضرة وبقوة فيما يخص الناس في أمور دينهم من فتاوى وخطب وإرشاد حتى لا يتسلم مثل هذه الأمور جهلاء فيضلوا الناس، وينشروا الانحراف أو التطرف؛ إذ من الخطورة ترك هذا المجال من دون وضع تنظيم عام يضبط الفتوى في خطوطها العريضة وذلك فيما يخص عموم الناس، لتساهم المؤسسة الدينية في إرساء السلم الأهلي، وترشيد الخطاب الديني، وهذا هو الدور المطلوب من المؤسسات الدينية، فليس مطلوباً منها الدخول في صدامات، وملاحقة كل ما تراه خطأً دينياً من وجهة نظر أعضائها، مما يشعل ساحة المجتمع بصراعات دينية، وملاحقات فكرية. التغييرات الأخيرة.. لا جديد التغييرات الأخيرة التي أضافت علماء من مذاهب فقهية سنية مختلفة هل أثرت على عمل الهيئة؟ ولماذا؟ أود أن أنبه إلى موضوع غفل عنه كثيرون؛ كثير من المراقبين يظن أنها المرة الأولى التي يعين في الهيئة علماء من المذاهب السنية غير المذهب الحنبلي، وهذا غير صحيح؛ فالقارئ لتاريخ العلماء المعينين في الهيئة ومذاهبهم يجد أنها ليست المرة الأولى التي يعين فيها علماء ليسوا من المذهب الحنبلي، ففي أول تشكيل لها عام 1971م جرى تعيين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وهو من كبار علماء المالكية، والشيخ محضار العقيل وهو شافعي المذهب، وفي سنة 1994 م جرى تعيين الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وهو من علماء الشافعية، و يؤكد عضو الهيئة سابقاً الدكتور سعد الشثري على هذه الحقيقة بقوله: "الهيئة منذ تكوينها كان من أعضائها نخبة من العلماء المسلمين من أصحاب المذاهب المختلفة؛ فالعلامة محمد الشنقيطي وهو مالكي المذهب، وكذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو حنفي المذهب، وأيضاً الشيخ عبد المجيد حسن وهو شافعي المذهب، باعتبار العلماء الذين تتلمذوا على أيديهم". كثيرون من المراقبين يخلطون بين الالتزام العقدي الصارم بالسلفية الذي تنتهجه الهيئة في فتاواها والالتزام بالمذهب الحنبلي في الفروع الفقهية؛ فهيئة كبار العلماء لا تلتزم التزاما صارماً بالمذهب الحنبلي في الفروع الفقهية بل هناك تحرر مذهبي في الإفتاء؛ فقد غلب على فقهاء السعودية مذهب أهل الحديث إتباعاً لتنظيرات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وهو ترجيح ما صح فيه الدليل بغض النظر عن مذهب قائله، وممن رسخ هذا التوجه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ولم يبق الالتزام المذهبي الصارم بالمذهب الحنبلي إلا في الجانب القضائي؛ إذ تعتمد الأحكام القضائية على مدونات الفقه الحنبلي ك( المغنى )، و( كشاف القناع )، و( الشرح الكبير )، ومن هنا نجد أن دخول أعضاء ليسوا حنابلة في التغيير الجديد في الهيئة لا يشكِّل سابقة، ثم على القول بأنهم أصحاب مذهب مغاير لجمهور أعضاء الهيئة فإن أثرهم يظل محدوداً جداً نظراً لأن القرارات تؤخذ بالأغلبية، وهم أقلية في الهيئة . ظهور وسائل إعلام كثيرة وبروز رموز دينية ودعوية غير رسمية ومواقع انترنت هل يمكن أن يؤثر كل ذلك على هيبة ومكانة هيئة كبار العلماء؟ لا شك في هذا فقد كانت الهيئة تكاد تكون هي المصدر الوحيد للمعرفة الدينية في مجتمعنا، وكانت تستمد سلطتها من هذه المعرفة الدينية التي تمثلها، لكن انتشار وسائل الإعلام الفضائية، وبروز خط مواز لعلماء غير رسميين، ودخول الإنترنت لاعباً رئيساً في حقل المعرفة الدينية، وحضور التوجه الحركي الإسلامي بأنشطته ورموزه في المجتمع؛ كل هذه العوامل جعلت السلطة الدينية التي كانت تمثلها الهيئة تتفتت، وقلل ذلك كثيراً من مكانة الهيئة، وعلماء الهيئة؛ إذ أصبح الخيار أمام الجمهور واسعاً ليختار رموزه الدينية، فليست مكانة العالم تستمد من وظيفته الرسمية مهما كانت تلك الوظيفة، بل مكانة العالم تستمد في نظر الجمهور من مدى علميته، وتقواه، وقوته في طرح ما يعتقده حقاً، وتستمد لدى جمهور الحركيين من نشاطه الحركي، وأطروحاته المتفقة مع نظرتهم تجاه الوقائع والأحداث. فترات "الحصانة والتأثير" -كما أسميتها في دراستك- لهيئة كبار العلماء تغيرت بتغير الرموز ابتداءً من الشيخ محمد بن إبراهيم صاحب السلطة والنفوذ القويين مروراً بالشيخ عبد العزيز بن باز صاحب الاحترام والقبول الواسع النطاق وانتهاءً بسماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المعروف بميله إلى محبة الناس والعطف عليهم وحرصه على النصح لولاة الأمر. هل تستمد الهيئة قوتها وتأثيرها من رموزها ورؤسائها أكثر مما تستمده من تأثيرها في الواقع؟ وما الذي تغير حتى تغير تأثير الهيئة؟ لا تستمد الهيئة حضورها وحصانتها وتأثيرها من شيء واحد، بل تستمدها من عوامل متعددة، منها عوامل ذاتية وهي تمتع أعضاء الهيئة بغزارة العلم، والتقوى، والورع، والصدق في النصح والإرشاد، والقوة فيما يرونه حقاً، ومنها عوامل خارجية وهي دعم السلطة السياسية للهيئة، وتعزيز جانبها، ومن العوامل الخارجية أيضاً حالة المجتمع المعرفية؛ فلا يمكن مقارنة الحالة المعرفية للمجتمع السعودي اليوم بما فيها من زخم معرفي وتنوع الأطروحات، وتعدد مصادر المعرفة بما كان عيه المجتمع منذ عقدين أو أكثر.وإذا كان لا يزال بين أعضاء الهيئة من يملك المؤهلات الذاتية من علم وتقوى وصدق، إلا أن غالب العوامل الخارجية تغيرت كثيراً؛ فالمشاهَد اليوم أن الواقع السعودي تغير جذرياً من حيث حالته المعرفية، وتعدد مصادر المعرفة، وحضور التعددية في النظرة الدينية تجاه كثير من الوقائع، وهذا التغير في المجتمع لم يواكبه تغير في الهيئة؛ إذ بقيت الهيئة في تشكيلها، وآلية التعيين، وأساليب الطرح، وطريقة التعاطي مع الأحداث كما كانت منذ تأسيسها.