كل العلوم ومنها العلوم الشرعية تنشأ عبر معارف قليلة، ثم تتراكم المعارف وتتشعب، فتكون علوما ضخمة تتناول الكليات والجزئيات ويتعاظم فيها التراث العلمي- حتى يصبح مفخرة للأمة التي أنشأتها وأبدعت فيها، ثم تكون هذه المعارف ملكًا للبشرية كافة، تنهل منها وتواصل تطويرها وتجويدها على مرّ العصور، هذه حقيقة يعرفها كل من كان همه طلب العلم وارتياد حقوله، ولا يشكو أحد من هذا التراكم العلمي إلا إن أصابه العجز فلم يستطع ملاحقة هذا التطور العلمي الهائل، أما أن يأتي آخر الزمان من يقول: إن علم الشريعة قد انتفخ وتورم، فلعله لم يدرك أن الانتفاخ والتورم لا يكون إلا نتاج علة تطاول زمنها، فلم يمدح به أحد قط، وإنما هو انتقاص يراد به عيب هذا التراكم العلمي والمعرفي الإسلامي، فهذا التراث الضخم في مختلف العلوم الشرعية مفخرة لمبدعي هذه الأمة المسلمة، أنتجته، وقد أثار هذا التراث الضخم الذي صنعته العقول المبدعة من المسلمين عبر العصور إعجاب الأمم من حولنا، ولكنه ثقل على بعض منا فلم يروا فيه سوى انتفاخًا وورمًا، فجعلوا ما هو مفخرة لأمتهم عيبًا ننتقص به علوم شريعتها، التي خدمها الأذكياء المبدعون من أفرادها، وخلطوا حقا بباطل وأرادوا بجهل عظيم أن يقولوا: لا ضرورة لهذا التراكم العلمي كله، فقد ثقل على كواهلهم فلم يدركوا منه إلا القليل، وأرادوا التخلص منه، فجعلوا العيب فيه لا فيهم، ولم يكفهم هذا الهذيان حتى زعموا أن الصحابة رضوان الله عليهم أعلم وأحكم لأن هذا التراكم لهذه العلوم ما تم في عصرهم، وما دروا أن هذا التراكم كله إنما يعود إلى ما بث سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم من علم شرعي نقلوه إلينا، علمهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم- صلى الله عليه وآله وسلم- فهو علم السلف بنى عليه الخلف، ولا يعاب السلف إن كانت هذه العلوم في عهدهم هي الأصول التي بني عليها هذا التراث العلمي المتعاظم، فقد أخذ الخلف من حيث أخذ السلف، فكلاهما ينهلان من مصدر واحد نقي وطاهر من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم- وقياس شرعي صحيح باجتهاد بحسب الأصول المتفق عليها، ولولا هذا التراث العلمي الضخم لما وصلنا إلى أن نعرف ما كان عليه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه الأكرمين رضوان الله عليهم، وقد ظلت علوم الشريعة مستهدفة على مرّ العصور ممن لم يستطع أن يستوعبها فعابها وبرر ذلك بتبريرات لا صلة لها بحرص على الدين أو إعلاء مرحلة من تاريخ الإسلام لإبطال كل ما تراكم من هذه المعارف الكبرى في مختلف العلوم الشرعية، لأن ببقائها وتراكمها على مدى الزمان يحفظ الإسلام أصوله وفروعه ويصان، وحملة معاول الهدم لا يريدون ذلك مرة بدعوى أن المذاهب تجلب فرقة، أو أنها حلت محل الأصل، ويدعون بضوضاء إلى الغاء هذه المذاهب، ليحصر العلم في منهج تيار وفئة واحدة، وهو ما لم يحدث ولن يحدث أبدًا، فما من مذهب إسلامي إلا وهو مستمد من الأصول الأربعة المتفق عليها أعني (كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والإجماع والقياس) وما تلا ذلك من أدلة وإشارات وعلامات يصل بها طالب العلم إلى الحق الذي تمثله هذه العلوم الشرعية، وعلوم الآلة الخادمة لها، فزيف الهادمون دعوة هي في الحقيقة وَهمٌ لا يتحقق، هي الدعوة إلى العودة إلى القرن الأول، ولن يعود إليه أحد إلا عبر هذه العلوم المتراكمة المعارف، ولا طريق لمعرفة ما كان في هذا القرن إلا بها، وتمنيت لمن يرفع شعار العودة إلى القرن الأول أن يعلم أن الماضي وإن زهى لن يعود، وأما البناء عليه فقد تم، ومن هذ التراكم العلمي يحسن الوصول إلى ما كان عليه أهله من الحق، الذي ورثناه عنهم عبر علوم تتطور وتجود على مر العصور، وإن أغضب أحدًا تطورها وتراكمها فليعلم أنه السبيل الوحيد للوصول إلى علم القرن الأول، فهلا تركنا هذه المماحكات التي لا طائل تحتها، يبثها من لا علم له بهذه العلوم أو ضعف تحصيله لها، هو ما نود أن يفعلوه والله ولي التوفيق. ص.ب 35485 جدة 21488 فاكس 640743 [email protected] [email protected]