كان القمر بدرًا، ورفيقي يشير إلى مبنى المدرسة في القرية التي وصلناها للتوّ في ساعة متأخرة من الليل، استيقظتُ مكبرًا، وفي داخلي أسمع صوت الفنان طارق عبدالحكيم وهو يردد: حبيبي في راوبي شهار ووادي وج والمثناه على هذا الإيقاع كنتُ أتحرّك داخل غرفتي الوحيدة التي يحيط بها حوش واسع من أكثر جهاتها، ولأول مرة شعرتُ بأنني أردد هذه الأغنية، وأنا أعيش المعاني العميقة لكلماتها (غرام وشوق ما ننساه).. وكدت أرفع صوتي لولا خشيتي أن يصل صوتي إلى النسوة اللائي أسمع أصواتهن في الأحواش المجاورة وهن يقمن على شؤون الماشية التي رأيتها تنطلق أسرابًا.. أسرابًا، وأنا أغادر متّجهًا إلى المدرسة، حيث يقف الطلاب أمامها صفوفًا.. صفوفًا، وزملاء المهنة يتقاطرون من القرى المجاورة لأجد نفسي الوحيد الذي ليس من هذه الديار. في المدرسة وجدتُ التحضير جاهزًا، وخلال فصل دراسي واحد عرفتُ جميع طلاب المدرسة، ودروس جميع المواد، وأنواع الإبل، وأسماء أهل القرى المجاورة، وتعرّفتُ على الأشجار، وكائنات الطبيعة، وشعرتُ أنني مبتعث إلى عالم تآلفتُ معه سريعًا؛ لأنه قريب من روحي؛ حتى أنني عندما عدتُ إلى المدينة الكبيرة في إجازة نصف العام شعرتُ بشيء من برد الغربة يتسرب إلى مفاصلي، ويعوق انبلاج ملامح وجهي.. ويحد من حركة توزيع ابتساماتي، أنني لا أزال هناك، زهور الصحراء، وبدورها، ونجومها تناديني، والنشامى ينتظرون. بعد فترة أصبحت أجيد السلخ، والنفخ، والطبخ، وبناء الخيام. أصدقائي من هذه القرى يتحلّقون حول ناري التي أوقدها في الفضاء الرحب، حيث أقدّم لهم أحيانًا حليب الإبل الذي أصبحتُ أستمتع بإيقاعه في الإناء بعد أن أقوم بتحضير الناقة للحلب، بل إنني عرفتُ أسماء النجوم التي أستمتعُ بالنظر إليها حين أستلقي على فراشي خارج الخيمة في الصحراء. يا إلهي كم من السنوات مضت من عمري وأنا أنظر إلى الأرض، ولم ألتفت بما يكفي إلى السماء، والعقرب لم تعد تخيفني! فقط أحرّك قدمي لأسحقها سريعًا، وأنا أسرد الحكاية، أو ألقي شيئًا من القصائد التي حفظتها مع محاولاتي الأخرى على مَن حولي من الصحاب الذين تفجرت مواهبي بالعيش معهم، وحين خفق قلبي في البراري، صوتي أصبح يصعد إلى الأعلى مع أنغام الربابة.