«أوصلتني زوجة خالي الى أمام البناية، «هذه هي». كي أشعر أن المطر رذاذ وخفيف وغير مهم، أطفأتْ مسّاحات الزجاج الأمامي، كانت مثلي ترتدي الأسود ثوب الحداد، لكنني انتبهت الى الطلاء الأحمر الفاقع على أظافر قدميها. هل رأى خالي ذلك وهما يشربان قهوتهما في الصباح؟ رأى أم لم يرَ، لماذا أهتم؟ انهم يتخلون عني منذ اليوم. لم أعد منهم ولا مربوطة بهم. ماتت أمي وصرت بلا أحد. قالت زوجة خالي: «الطابق السابع، لا أعرف أي شقة بالضبط، لكن اسمه مكتوب على الجرس ويعرف أنك آتية، لم ينزل كي يحمل حقائبك، وصلنا أبكر من الموعد. هل تريدين مساعدة؟»، سألتني هل تساعدني بينما ألفّ شالي الأسود على رقبتي، لكنها لم تنزل يديها عن المقود ولم تطفئ المحرك. سيارات تتجاوزنا أطلقت أبواقها لأننا نسدّ قسماً من الطريق الضيقة. لم أكن أعرف أنه يعيش في مكان مثل هذا، «الصندوق مفتوح». قبلتني قبلة وداعية انيقة على خدي. رائحة العطر وكريم الوجه، «تَلْفِنِي لنا في نهاية الاسبوع وسنأتي ونأخذك الى المطعم ونتغدى معاً، اذا كانت الطرقات مفتوحة». تحركت بسرعة كي لا أتبلل كثيراً، سحبت الحقيبة الأولى الى الرصيف، ثم الثانية، لكن بينما أخرج الأخيرة، الأصغر والأخف، من أعماق الصندوق، علق شالي بشيء. دائماً هكذا. وحين خلصت نفسي ووقفت أخيراً بين الحقيبتين الكبيرتين حاملة الثالثة من حزامها على كتفي،كنت محمرَّة الخدين مبلولة الثياب وبنطلوني المخمل الأسود يلتصق ثقيلاً ورطباً بجلدي. إشارة من يدها وابتسامة، وأنا شعرت بالخجل ورفعت يدي ثم حملت الحقيبتين بسرعة ودخلت بين أكياس الرمل المصفوفة كالحيطان الى البناية. ما ان دخلت حتى اختفت ضجة الطريق وطرطقة السقوف التنك. شكرت ربي حين رأيت اللمبة مشتعلة: الكهرباء ليست مقطوعة! كان المدخل قديماً وفسيحاً وعالي السقف، ذكّرني وقلبي يخفق بعنف ببناية الأونيون جنب حديقة الصنائع،حيث كانت أمي تعمل. لا تماثيل أُسُود هنا، لكن رائحة المكان تشبهها، والسكوت. عثرت أخيراً على المصعد في زاوية مظلمة. كان مخيفاً، مصنوعاً من الخشب والحديد ويبدو تحفة أثرية. على كرتونة مهلهلة مربوطة الى صندوق قضبانه المتقاطعة قرأت: «الأسنسير معطل». هذه الحقائب التي كنا نستخدمها حين تضطر أمي بسبب عملها للسفر، أتذكر كم مرة تصارعنا مع ثقلها في المطارات. أتذكر ضحكات أمي وأنا أسقط تحت الحقائب وأختفي. كنت أحب أن أحمل معي قصصي في كل مرة نسافر، وما تسمح لي به من ألعابي. كنت صغيرة. هذه المرة أنا وحدي ولا عربات بدواليب هنا ولا درج كهرباء. حين بلغت الطابق الثالث أو الرابع، جلست على الحقيبة كي أرتاح، هل هو الطابق السابع أم الثامن؟ من أين يبدأ العد؟ من الطابق السفلي أم من المدخل؟ أم أن السفلي يُحسب الطابق الصفر؟ لماذا لم يضعوا أرقاماً على حيطان الطوابق؟ نهضت وتابعت الصعود. أصابعي أوجعتني كأنني أحرقها. تذكرت ان خالي قال: «الطابق الفوقاني»، مع هذا تفحصت الاسمين على الجرسين في الطابق الخامس أو السادس (بعد ذلك سأعرف أنه السادس). استغربت الاسم الاجنبي (هاينيكن) في هذا المكان، وتابعت الصعود. هنا وجدت عدداً أكبر من الأبواب: خمسة! من دون أن أبحث عرفت في أي شقة هو: كان الباب موارباً ومن الداخل يخرج دخان خفيف ورائحة بطاطا مقلية. * على الجرس: «أندريه موراني». لم يخطر ببالي أنني سأقف يوماً في مكان غريب لا أعرفه كي أقرأ اسمه مكتوباً هكذا، بحبر أحمر على كرتونة جرس مكسورة الزجاج. خفت أن أمد يدي وألمس الزرّ. خفت أيضاً أن أرفع يدي وأقرع الباب. لا أعرف كم بقيت واقفة هكذا أسمع حركته في الداخل كي أتأكد أنه وحده وأصغي الى أغنية منبعثة من الراديو، أسمهان أو ليلى مراد أو أم كلثوم، كنت أعرف أسماء المطربات ولكن أعجز عن التمييز بينهن. أوجعني كتفي وحسبت أن مفصلي انخلع من مكانه بسبب ثقل الحقيبة، وكالعادة وضعت اللوم على أمي وعلى هديتها لي التي يفوق وزنها وزن أي كتاب آخر: مجلد «أصل الأنواع» لداروين. لم أتمكن يوماً من إنهائه! كانت دائماً تضحك كلما وجدت نفسي بلا روايات أقرأها، لأنني قرأت كل ما اشتريته واستعرته، وكانت تقول لي: «عندكِ داروين! لا تقولي لي ليس عندي شيء أقرأه!» وكنت أصيح: «داروين ليس قصة! نظرية النشوء والتطور ليست للقراءة. هذا كتاب لتعذيب الأطفال!»، كانت تضحك حتى أطلب منها أن تكف عن الضحك، لأن الضحك الكثير يصيبها بالحازوقة، وذلك أيضاً كان يضحكها. مرات كثيرة كانت تضحك وأنا أقول شيئاً عادياً كأنني قلت للتو أظرف شيء في تاريخ العالم. «أندريه موراني». أصبعي لمس الزر لكنني لم أكبس عليه، شعرت بأمي وراء ظهري: «لورا»، صوتها في أذني لا يتركني. في الليل أقوم من النوم باكية وأبحث عنها في الغرف. سمعت صوتها وكانت تناديني لكنني لا أجدها. معظم الناس ينادونني «لولو»، اسم التحبب الذي لصق بي منذ طفولتي حتى صار تقريباً اسمي. لكن أمي كانت تحب أن تناديني «لورا». على الصفحة الأولى من كتاب داروين الذي اشترته لي كي أقرأ شيئاً آخر غير المغامرات المصورة والألغاز والروايات التي لا أكف عن «أكلها»، كتبت لي إهداءً بخطها المنمنم الطفولي: «ابنتي حبيبتي لورا، لا أستطيع أبداً أن أخبرك كم أحبّك». أبكي وأراها أمام عينيّ تمد يدها كي تمسح دموعي. بقيت واقفة حتى انتهت الأغنية في الراديو ولم أكبس الجرس. سمعت حركة تقترب من الباب. عندئذٍ فقط قرعت الباب. * لم يكن كما تخيلته أو كما تذكرته. لم أرَ أبي منذ تسع سنوات تقريباً. لم يعد نحيلاً، ووجهه تبدل كأنه تورّم، لكن شيئاً آخر جعله يبدو غريب الوجه. لم أنتبه ولم أتمكن من تحديد ما هو الا بعد أن جلست قبالته الى الطاولة حيث وضع الطعام: حلق شاربيه! سألني لماذا حملت الحقائب وحدي. سألني لماذا لم نزمر له كي ينزل؟ وسألني أين خالي؟ شرحت له أن زوجة خالي هي التي أوصلتني، وقلت ان الحقائب أصلاً غير ثقيلة. نظر اليّ كأنني من كوكب آخر أو كأنني أظنه هو من كوكب آخر. كانت يده عرقانة حين صافحني، وبينما ينقل أشياء من البراد الى الطاولة انتبهت إلى أنه مثلي كثير الارتطام بالأشياء. كان يلبس بنطلون جينز أزرق جديداً وكنزة خضراء، وكان ينتعل صباطه. استغربت أنه ينتعل صباطه وهو في البيت. أخرج من المقلى العميق المسودّ «صاجاً» آخر من البطاطا التي احترقت أطرافها. شكرت ربي أنني جالسة في الجهة الأبعد من الغاز. سألني هل ما زلت أحب الإسكالوب الدجاج مع البطاطا والكاتشاب وسلطة الملفوف. هززت رأسي ولم أعرف ماذا أقول. لم أكن جائعة، مع أنني في الصباح، وأنا في بيت خالي في جونيه، لم ألمس الفطور: جلبوا من أجلي فطوري المفضل الكرواسون ساخناً طازجاً من الباتيسري (كرواسون بالجبنة، بالزعتر، بالشوكولا، بالمربى، وكرواسون سادة بلا حشوة) لكنني وجدت الجو الاحتفالي فظيعاً وبلا ذوق. خفت أن أجهش بالبكاء أمام أولاد خالي الصغار. اهتزت الطاولة ورأيته يضع قطعة خشب مربعة تحت قائمة من قوائمها كي تتوازن. كان جسمه قريباً جداً وهو ينحني كي يفعل ذلك، وعندما ابتعد وهو يدمدم بجمل لم أفهمها تنفست من جديد. على قطعة الخشب المربعة جنب صباطي الأسود الطويل الساق رأيت رسم بطة والأثر الدائري الذي يتركه كوب. سمعت المطر فوقي، على السطح. نظرت الى المقلى والى صحن البطاطا وشعرت بتعب شديد. أردت أن أنام. لكن ليس هنا. أردت أن أنام في حضن أمي».