ردًّا على مقالة الدكتور تنيضب الفايدي في ملحق الأربعاء بجريدة المدينة المنشور يوم 5 محرم 1433ه تعقيبًا على محاضرة النادي الأدبي التي عّقدت يوم الثلاثاء 26/12/1432ه والتي كانت تحت عنوان (مسار الخندق في النصوص والروايات التاريخية)، أود أن أنبّه الى المغالطات التي جاءت في هذه المقالة والتي لا تمت للحقيقة بصلة، والدكتور تنيضب الفايدي أحد أصدقائي، وأكنّ له كل محبة واحترام، فهو أحد أبناء المدينة البارّين الذين خدموا المدينةالمنورة في مجالات شتى، ولعل من أهمها اجتهاده في مسألة آثار المدينةالمنورة ومعالمها على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وحبي وتقديري لهذا الرجل لا يمنعني أن أهمس في أذنه فأقول مختصرًا: إن استخدام العناوين الرنانة والمبالغة في العناوين أمر غير مرغوب، فقد استخدم هذا الأسلوب قديمًا بهدف كسب تأييد القراء ونزولهم عند رأي الكاتب، ونحن نعلم اليوم أن قراءنا الكرام قد أصبحوا على قدر كبير من العلم والثقافة، وهم قادرون على تمييز الأمور وتحقيق النصوص بشكل لا يدع لتلك العناوين أي تأثير عليهم. لقد سطّر الكاتب عنوانًا لمقالته بقوله: "المؤرخون مجمعون على خلاف ما ذكر بالنادي الأدبي بالمدينةالمنورة حول الخندق" وهنا أقول إن ما أجمع عليه المؤرخون هو ما جاء في محاضرة النادي الأدبي. فقد أشار بعض المؤرخين إلى طول الخندق الأساسي بأنه (5000) خمسة آلاف ذراع، وأشار بعضهم إلى أن طوله (12000) اثنا عشر ألف ذراع، قصدوا بذلك طول الخندق الأساسي مع طول الخنادق الفرعية التي قام بها بني حارثة وبني عبدالأشهل من الشرق وبني دينار من الغرب، فأين الخلاف الذي ذكره الكاتب، وإن كانت معلومات الكاتب قد توقفت عند الخندق الأساسي وهو (5000) خمسة آلاف ذراع فقط، ولم يبلغ في إطلاعه على بقية المصادر التي أشارت إلى الطول الكلي فهذا شأنه وهي حجة عليه لا حجة له. وما إشارتي في المحاضرة إلى ذلك إلاّ لكي لا يرتبك القارئ الكريم عندما يجد أن من المصادر من أشار بأن طول الخندق الأساسي (5000) ذراع، وفي مصادر أخرى ذكرت الطول الإجمالي للخندق بأنه (12000) ذراع، فمن أشار إلى (5000) ذراع فهو يقصد الخندق الأساسي الذي أقامه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أجمة الشيخين وحتى حصن أو أطم المذاد، أمّا إشارة بعضهم إلى أن طول الخندق (12000) اثنا عشر ألف ذراعًا فهي إشارة منهم إلى مجموع طول الخندق الأساسي والخندقين الفرعيين اللذين حفرهما بنو حارثة وبنو عبدالأشهل في الشرق وبنو دينار في الغرب. إن ما أشار إليه الكاتب في مقاله بالأمر الخطير والخوف على أبنائنا الطلاب بإعطائهم معلومات مغلوطة، فهذا هو السبب الأهم الذي جعلني أكتب تعقيبي على مقالته لتصحيح بعض المعلومات المغلوطة التي جاءت في مقاله، وتوضيح الحقيقة حول هذا الموضوع خشية أن يعتقد القراء بصحتها وهي غير ذلك. أمّا بالنسبة للمتحف فأحمد الله تعالى أن اختارني دون غيري لإقامته لخدمة المدينةالمنورة وأهلها وسكانها وزوارها وطلبتها من خلاله، وأود أن أوضح بأنه قد زار هذا المتحف ولله الحمد الكثير من العلماء والمؤرخين ورجال العلم والتاريخ بشتى طبقاتهم، وإن كانت هناك معلومات غير صحيحة كما أشار الكاتب لما سكتوا عنها، كما أن هذا المتحف قد ساهم في تصحيح معلوماته أكثر من أربعمائة شخصية من أهالي المدينةالمنورة المثقفين والمتعلمين من أساتذة جامعات ومحاضرين وإعلاميين ومؤرخين في شتى المجالات ولدينا السجلات التوثيقية التي توثق ذلك، وأود أن أطمئن الكاتب بأن لا يخاف على طلابنا، فنحن حريصون عليهم كما هو حريص عليهم. إلى متى نتعلق بالماضي ونعمل بمعزل عن الحاضر وتقنياته الجديدة؟ وإلى متى نعتبر أن التقنية والحاسب الآلي وعلوم الكمبيوتر والأقمار الصناعية ضرب من الخيال، وأنها أعمال شيطانية ولا يعتمد عليها، ونحن نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين، هذا القرن الذي اعتُمدت فيه التقنية كأساس لمعالجة الكثير من مشكلاتنا، بل ومشكلات العالم بأسره، وهذه العلوم هي من العلوم التي منّ بها الله تعالى على العالم بأسره، وتشكيك الكاتب بنتائج تلك التقنيات أو استخدام تقنية الأقمار الصناعية التي وصلت فيها الدقة اليوم إلى إعطاء الحقائق بنسبة خطأ لا تتجاوز سنتمترات فقط، وقد أسهمت هذه التقنيات الحديثة في إعطاء الأبعاد والمساحات بكل دقة لا يمكن أن تصل الى دقتها الطرق التقليدية العادية في القياس، فقد أشار الكاتب بأن طول الخندق لا يصل إلى الطول الذي أشير إليه في المحاضرة بقوله: "أظن وأتوقع أن هذا الطول -أي الطول الذي قرأه الحاسب- غير صحيح، وذلك بمجرد التخمين والظن". ويمكن لأخي القارئ الكريم قياس المسافة بين معالم الخندق وهي ثابتة ولا جدال فيها (من أطم الشيخين وحتى مسجد الراية ثم جبل سلع ثم جبل بني عبيد الصغير وحتى أطم المذاد) ليتأكد من صحة المعلومة والتقنية، وأجهزة الحاسب الآلي اليوم قد انتشرت في كل مكان ليس في الأمانة فقط، كما أشار الكاتب، بل دخلت في كل بيت وأصبحت تحت متناول الصغير قبل الكبير، ولم تكن هذه التقنية في أمور الحاسب حكرًا على الأمانة أو على أية جهة كانت فهي علوم متاحة لكل من رغب الاستفادة منها عرفها مَن عرفها، وجهلها مَن جهلها، وأؤكد أن عصرنا اليوم لا مجال فيه للتخمين والظن.. فالمعلومات أصبحت كوضوح الشمس، والتقنية قد ذللت كل الصعاب وحلّت كل المشكلات. أمّا بالنسبة للرسمين اللذين ظهرا في أعلى المقالة وهما من تصميم وإعداد الكاتب كما دوّن على المخططين ففيهما نظر. أولاً: الرسم غير صحيح بكل المعايير، ومغاير للحقائق. فمواضع المعالم غير صحيحة، ومسار الخندق فيه (العجب!!) فلا هو حقق مروره بمعالم الخندق التي وردت في كتب المؤرخين، وهي (أطم الشيخين، مسجد الراية، جبل سلع، جبل بني عبيد الصغير ثم أطم المذاد)، ولا هو حقق مسافة طول الخندق التي ذكرها المؤرخون، ومع علمي بأن الكاتب ليس مهندسًا أو جغرافيًا فكان من الأولى له استخدام الخرائط الفضائية الموجودة في كل مكان كي يوضح معلوماته وبطريقة صحيحة. أمّا بالنسبة للرسم الثاني ففيه ما في الأول، ورسمه للخندق الفرعي الذي حفرته بنو حارثة وبنو عبدالأشهل في الجهة الشرقية جاء فوق حرة واقم، وهذا خطأ كبير ولم تذكره المحاضرة، إنما هو أسفل الحرة وليس أعلاها، كما أود أن أنبه بأن ديار بني حارثة ليست هي في أعلى الحرة فقط، بل امتدت في الأرض الطبيعية (سفح الحرة) حتى وصلت إلى مسجد بني حارثة المعروف بمسجد المستراح (1)، لذا تم حفر الخندق الفرعي لحماية منازلهم ودورهم. وهذا الوضع هو نفس ما رسمه الكاتب للحرة الغربية، فقد وضع الخندق على الحرة الغربية (حرة الوبرة) ولم يقل بذلك أحد رغم أن جميع الخرائط التي عرضت في المحاضرة كانت واضحة، فما أدري سببًا لهذه المغالطة والتقوّل بشيء لم يقُل، ولم يُرسم ولم يُشر إليه مطلقًا بهذه الكيفية. إشارة الكاتب إلى أن الحرار التي تحيط بالمدينةالمنورة هي خمس حرار ذكرها بحرة الوبرة (الحرة الغربية)، وحرة بني بياضة في الجنوب الغربي، وحرة شوران في الجنوب، وحرة بني قريظة في الجنوب الشرقي، وحرة واقم (من الشرق) وأشار إلى أن هذه الحرار هي التي تحيط بالمدينةالمنورة، وليس كما جاء في المحاضرة. وهنا أود أن أصحح المعلومة فقد خلط الكاتب بين الحرار الأساسية الكبرى التي تحيط بالمدينةالمنورة ومسميات الحرار الفرعية المتصلة بها، والتي هي جزء منها كحرة بني بياضة، وحرة بني قريظة، وحرة شوران وهي مسميات لأجزاء من الحرة الكبرى، وسأوضح لك أخي القارئ الكريم هذه الحقيقة بالتفصيل: "تحاط المدينةالمنورة بثلاث حرار كبيرة وهي الحرار (الأم) وتمتد خارج المدينةالمنورة لمسافات كبيرة، ويطلق على امتدادها أسماء مختلفة في حين أن بعض أجزائها داخل المدينةالمنورة أطلق عليها مسميات مختلفة حسب موضعها، وحسب نزول القبائل عليها، والأحداث المختلفة التي وقعت عليها كحرة الظاهرة وغيرها، والحرار الأساسية هي: حرة واقم: وتعرف بالحرة الشرقية، وهي أكبر وأعظم الحرار وتحد المدينةالمنورة من الشرق. حرة الوبرة: وتعرف بالحرة الغربية وتحد المدينةالمنورة من الغرب. الحرة الجنوبية: وهي تحد المدينةالمنورة من الجنوب. فأما الحرة الشرقية -حرة واقم- فلأجزائها داخل المدينةالمنورة عدة مسميات فرعية كحرة بني حارثة، وحرة بني عبدالأشهل، وحرة بني قريظة التي تحتل الركن الجنوبي الشرقي من المدينةالمنورة. وفيها منازل بني قريظة، وتتضمن هذه المنطقة المسجد المأثور الذي بني في موضع الخيمة التي ضربها النبي صلّى الله عليه وسلّم إبان غزوة بني قريظة، ويعرف هذا المسجد أيضًا بمسجد بني قريظة (2). أمّا حرة الوبرة وهي الحرة الغربية فلأجزائها المختلفة أسماء عدة، فنجد أن طرف الحرة الجنوبي يُعرف بحرة بني عمرو بن عوف، ثم حرة بني بياضة، وهي في موضع منازل بني بياضة عند قلعة قباء، ثم حرة بني دينار الدنيا في جهة المغيسلة لبني دينار، ثم حرة بني دينار العليا عند مسجد المنارتين، ثم حرة الظاهرة، ثم حرة بني العضيد ثم حرة بني سلمة (الأم)، ثم حرة بني حرام، ثم حرة بني سواد، وغيرها. أما الحرة الجنوبية فلأجزائها أسماء أخرى أيضًا فمنها حرة قباء، وحرة معصم العليا، وحرة بني النضير، وحرة السد وغيرها. ويتضح ممّا سبق أن الكاتب -حفظه الله- قد خلط بين الحرار الأم، والحرار الفرعية بشكل غير صحيح، ولا يرضاه المؤرخون، أو علماء الطبيعة، الأمر الذي يربك القراء والعامة خاصة المختصين منهم في هذا المجال، وإن ما ذكره الكاتب عن هذه الحرار مخالف تمامًا لما جاءت به كتب المعالم الطبيعية، والجبال، والحرات التي حظيت بالكثير من المؤلفات والكتب، وخاصة مؤلفات منازل القبائل قبل الإسلام والتي ذكرت المسميات الفرعية لتلك الحرار على حسب منازل القبائل المختلفة. وفي ختام تعقيبي على المقالة أقول بأن كل هذه النقاط والتساؤلات كان قد ذكرها كاتب المقال في نفس المحاضرة -وقت المناقشة- وقمت بالإجابة عنها، أمام الحضور الكرام وبشكل مفصّل فلم أجد أحدًا من الحاضرين ناقش الموضوع، أو علّق عليه بما فيهم الكاتب نفسه لوضوح المعلومة كوضوح الشمس. وكم كنت أتمنى أن أذكر المراجع والأسانيد، وما أشار إليه المؤرخون في كل سطر كتبته في هذه المقال، إلاّ أن الفراغ المسموح لي بالكتابة محدود، وسيتم إدراج هذا الموضوع بكامل تفاصيله -إن شاء الله تعالى- في الموقع الإلكتروني لمتحف دار المدينةالمنورة للتراث العمراني. وفي نهاية تعقيبي هذا أود أن أكرر شكري وتقديري لأخي العزيز تنيضب الفايدي، وأشكره على حرصه الشديد وخدمته لمدينة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأقول له نحن أخوة يكمل بعضنا بعضًا. وأرجو من الله تعالى أن يكون القبول والرضا فيما كتبت، وإن كان الموضوع لا يزال فيه غموض أو عدم اقتناع، فأطلب من أخي وصديقي الدكتور تنيضب الفايدي إقامة مناظرة تحت إشراف النادي الأدبي في المدينةالمنورة بحضور كوكبة من الأساتذة والمتخصصين في مجال التاريخ والسيرة النبوية وعلوم الجغرافيا والطبيعة، حيث يتم اختيارهم عن طريق النادي الأدبي ليتم كشف اللبس والغموض عن هذا المعلم الهام من معالم غزوة الخندق. ----------- هوامش: (1) لقد أنكر الكاتب مسجد بني حارثة المعروف بمسجد المستراح، وذكر في جولته للجنة العلمية لدراسة غزوة أحد بمركز أبحاث ودراسات المدينةالمنورة بأنه ليس له أثر، وقد نبهت اللجنة في حينه بأنه من المساجد المأثورة التي وردت في كتب التاريخ بأنه من المواضع التي صلّى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سماه أهل المدينةالمنورة بالمستراح للرواية التي أشارت بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستريح في موضعه عند زيارته لشهداء أحد -رضي الله تعالى عنهم-. (2) لقد نفى الكاتب صحة هذا المسجد، وأشار بأنه مسجد آخر وحجته في ذلك أنه كان يأخذ الحجاج في صغره لزيارة المزارات، وكان يأخذهم الى مسجد آخر غير المسجد المشار إليه، وقد أثبت له أن المسجد المأثور هو المسجد السابق ذكره وأطلعته على الكتب والدلائل التي تؤكد ذلك، وقمنا بزيارته في إدارة التعليم بصحبة الأخ الدكتور أنور بكري، إلاّ أنه لم يقتنع بذلك، ولأهمية ذلك وددت التنبيه.