هنا أنا.. في وادي سلاّمة، شجرة سلم، بجوار سليم وسلمى الأشقاء، والجد سالم، هذا جذر قبيلتنا وشجرة نسب شجرتنا. هنا أنا.. منذ زمن بعيد وأنا أقف هنا، لا أذكر كم من السنين مرّت وأنا انتصب، وأمد فروعي وأرسلها في كل الاتجاهات، ولكني لا أزال أذكر العابرين. حين كنت بذرة، وخرجت للتوّ غادرت أمي في ليلة عاصفة مع أخواتي البذور، وبنات عمي الأوراق، وطرنا بعيدًا.. بعيدًا في الهواء، وحلّقنا في الأعالي، ثم بدأتُ أهبط.. أهبط.. وحطّت بي الرحال مع بذور أخرى، واستقر بنا المقام على صخرة في هذا الجبل، وما هي إلاّ ساعات قليلة حتى شعرتُ بدفء الشمس، وقبل أن يتغلغل الدفء داخلي شعرتُ بصوته وهو يلتهم شقيقاتي، كان الملتهم كائنًا غريبًا، لم أعرفه من قبل، ولم أتمكّن من رؤيته جيدًا لحظتها، غير أني شعرتُ أنه التهمني، ثم تأكدتُ أني استقر في شدقه الأيسر، ثم عرفتُ بعد حين أني سقطت في الخارج، حين كان يجتر في اليوم التالي، وتسلسلتُ عبر صخور صغيرة لأفترش تربة يزينها الدمن والبقايا، ثم لم ألبث أن انضمرتُ في الداخل حتى شعرتُ بالجفاف والحر الذي امتص كل ما فيَّ من رطوبة، شعرتُ معها أنني سوف أكون ذرة رمل تنتمي إلى هذه الصخور الصلبة، كنت فقط أسمع أصوات الحوافر والأقدام، وضجيجًا لا أعرف مصدره، ولكن فيما بعد أصبحتُ أعرف مصادر تلك الأصوات، وأفرّق بينها. حين أمطرت السماء في إحدى الليالي، وسمعتُ أصوات الرياح تذكرتُ ليلة غادرت أمي، وانطلقت في الهواء، غير أني في هذه الليلة كنتُ مكبّلة بما فوقي، فلم أستطع الحِراك، وحده الماء جاء إليَّ في الأعماق، وأغرقني، وحين ارتويتُ، ثم شرقتُ، شعرتُ بموتي كبذرة، تحرّكتُ وصرختُ، ثم انفجرتُ، حينها أحسستُ بأنني وُلدت من جديد، هذه قصة انطلاق البرعم، موت بذرتي الأولى هو حياتي التي أبهرتني، حياتي المقبلة ستكون شيئًا مختلفًا، هكذا كنتُ أحدّث نفسي وأنا أخرج من معاناتي حين لاحقتني السيول في أحد أحلامي، وقصصتُ رؤياي على إخوتي، وضحكوا وقالوا إنها تشبه حلمك الأول حين قلت إني رأيت طيرًا ينقر البذور، وأصابني منقاره بطريقة طرت معها، فأصبته في عينه، وولجت داخلها، ورفرفنا بعيدًا قبل أن يموت وأولد مرة أخرى.